عارض الجهل

الجزء الأول :

هذا البحث جزء من كتابي : مباحث الحكم الشرعي : تأصيلاً و تطبيقًا

وقد عرضت له عند حديثي عن أركان الحكم الشرعي و شروط كل ركن منها، و عوارضه (عوارض الشرط ) فالجهل من عوارض العلم .

والعلم شرط في المكلف، حتى يصح توجيه الخطاب له، و الشروط التي يجب قيامها في المحكوم عليه ( المكلف ) حتى يصح توجيه خطاب التكليف إليه سبعة شروط اجمالاً هي :

 

1ـ الحياة .

2 ـ أن يكون من الثقلين .

3 ـ البلوغ .

4 ـ العقل .

5 ـ الفهم .

6 ـ الاختيار .

7 ـ علم المخاطب بكونه مأمورًا قبل زمن الامتثال .

وكنت قد نشرت جزءًا منه قبل ذلك، و هأ نا أستجيب لأخي محب السلف وأنشره مرة ثانية، أسأل الله أن يصلح منا العمل و النية بفضله .

وسأنشرالجزء الذي أراه مناسبًا لهذا المقام إن شاء الله تعالى في أربعة أجزاء، و اعتذر عن توثيق النقول، على أنها في الأصل، لكن نقلها من الحواشي إلى صلب المقال يحتاج لوقت، ربما لا أملكه الآن

كنت قلت هذا، ثم يسر الله بعض الوقت فوثقت النقول حسب الطاقة فلله الحمد وحده .

فما كان فيه من صواب فمحض فضل من الله، و ما كان فيه من خطأ فإنما أنا بشر يستولي عليه النقص و الضعف و النسيان، فهو مني و الله و رسوله بريئان منه، و أسأله بفضله أن يتجاوز عني .

عارض شرط العلم : الجهل

الجهل عارض من عوارض هذا الشرط ـ العلم ـ بلا خلاف، و هو من العوارض المكتسبة، التي يمكن رفعها، إما بطلب العلم إن كان ممن يمكنه ذلك، و إما بسؤال أهل العلم إن لم يكن أهلاً لطلب الدليل من الكتاب و السنة .

لكن هل الجهل عذر يرفع عن المكلف حكم التكليف ؟

و إن كان عذرًا، فهل يشمل كلَّ مسائل الدين سواء كانت علمية أو عملية ؟

و إن كان يشملها، فهل كل مسألة من مسائل الدين ـ العلمية أو العملية ـ يكون الجهل بها عذر يرفع به عن المكلف حكم التكليف ؟

فهذه مسائل تفصيلية تحتمل مصنفًا وحدها، و هذا ما لا يحتمله هذا المصنف في أصول الفقه، لكن حسبنا هنا القواعد التي توضح السبيل .

و هذا أوان الشروع في هذا القصد فأقول و بالله العون و التوفيق و السداد :

أولاً : تعريف الجهل :

الجهل لغة : ضد العلم .

قال ابن فارس الجيم، والهاء، واللام أصلان :

أحدهما : خلاف العلم .

الآخر : الخفة وخلاف الطمأنينة .

فالأول : الجهل نقيض العلم .

و يقال للمفازة التي لا عــَلَم ( جبل ) بها مجهلٌ .

وهو المراد هنا . [ انظر : مختار الصحاح , ومعجم مقاييس اللغة مادة ( ج هـ ل ) . ]

و اصطلاحًا :

ـ تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع . [الورقات ( ص 9 ) .

أو : تصور المعلوم على خلاف ما هو به . [ اللمع للشيرازي ( ص 48 ) . ]

أو : اعتقاد المعتقد على ما ليس به . [ الحدود ( ص 29 ) . ]

أقسام الجهل

وهو قسمان :

الأول : الجهل البسيط : و هو عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالمًا.

كأن يُسْأل المكلف عن أركان الصلاة، فيجيب بـ : لا أدري .

الآخر : الجهل المركب : و هو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع.

كأن يسأل المكلف : كم أركان الصلاة ؟

فيجيب جازمًا : خمسة أركان .

فالأول ( الجهل البسيط ) : يعرف فيه المكلف أنه لا يعلم .

و أما الآخر ( الجهل المركب ): فيجهل فيه المكلف عدم علمه، بل و يجزم بصواب نفسه.

فهو اعتقاد جازم غير مطابق، لأنه يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، فهذا جهل آخر قد تركب مع الأول، وهذا النوع من الجهل يصعب رفعه عمن أصيب به.

و قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن ( 1/ 132، 133) : (الجهل على ثلاثة أضرب :

الأول: وهو خلو النفس من العلم، هذا هو الأصل، وقد جعل ذلك بعض المتكلمين معنى مقتضيًا للأفعال الجارية على غير النظام

والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه .

والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا كمن يترك الصلاة متعمدًا.

و على ذلك قوله تعالى:(( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )) البقرة: ٦٧

فجعل فعل الهزو جهلاً

وقال عز وجل : ((فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ )) الحجرات: ٦

والجاهل تارة يذكر على سبيل الذم وهو الأكثر، وتارة لا على سبيل الذم نحو: (( يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ )) البقرة: ٢٧٣

أي من لا يعرف حالهم وليس يعنى المتخصص بالجهل المذموم.

والمجهل الأمر والأرض والخصلة التي تحمل الإنسان على الاعتقاد بالشيء خلاف ما هو عليه.

و استجهلت الريح الغصن حركته كأنها حملته على تعاطي الجهل وذلك استعارة حسنة )) .

هل الجهل عذر

ثانيًا : هل الجهل عذر عند الله يُرْفَعُ به التكليف ؟

قال في كشف الأسرار ( 4 / 533 ) : (( الجهل في عمومه من العوارض المكتسبة، وذلك لأمرين :

كونه ثابتًا في حال دون حال كالصغر .

لأن إزالته باكتساب العلم في قدرة العبد، فكان ترك تحصيل العلم منه اختيارًا، بمنزلة اكتساب الجهل باختيار إبقائه ))

قال القرافي في الفروق ( 2 / 150 ) : (( وضابط ما يُعفَى عنه من الجهالات :

ـ الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه

ـ و ما لا يشق لم يعف عنه )).

وعلى هذا : فإن كان المكلف يستطيع دفع الجهل عن نفسه، بلا مشقة زائدة، فلا يعد الجهل عذرًا.

وإن كان المكلف لا يستطيع دفع الجهل عن نفسه، و لا يتمكن من معرفة الحجة الرسالية، فإنه والحالة هذه يعد عذرًا .

فالجهل أنواع ينقسم بها إلى قسمين :

الأول : باطل لا يصلح عذرًا .

الآخر : يصلح عذرًا .

عارض الجهل (الجزء الثاني) :

الجهل الذي لايصلح عذرًا

فمن الأول ( الباطل الذي لا يصلح عذرًا ) :

1 ـ الجهل بالله ـ عزَّ و جل ـ، و إرساله الرسل، و إنزاله الكتب، فمن ادعى لله الصاحبة و الولد مثلاً فهو كافر و هذا إجماع من الأمة على تسميته بهذا الاسم سواء كان عنادًا أو جهلاً، ما دامت قد بلغته الدعوة.

فمن أدلة ذلك :

ـ قوله تعالى : {رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرّسل وكان الله عزيزاً حكيماً} النساء: 165

قال الطبري في تفسيره، ط : دار هجر، الطبعة : الأولى ( 7 / 692 ) : (( " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"

يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه:( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) سورة طه: 134. فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه. ))

و قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم، طبعة : دار طيبة ( 2 / 476 ) : (( أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه و يرضاه مما يكرهه و يأباه؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر، كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } طه: 134

ـ و كذا قوله تعالى: { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } القصص: 47 .

ـ و قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا أحَدَ أغَيْرَ من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبَّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحدَ أحَبَّ إليه العُذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين"

و في لفظ: "من أجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه".)) صحيح البخاري برقم (4634) وصحيح مسلم برقم (2760) .

و قال البغوي في تفسيره البغوي، طبعة : دار طيبة للنشر والتوزيع ( 2 / 312 ) : (( و فيه دليل على أنّ الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول

قال الله تعالى: " و ما كُنّا مُعذِّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا "( الاسراء -15 ) ))

وقال الشوكاني فتح القدير، طبعة : دار الوفاء ( 1 / 848،849 ) : (( أي : معذرة يعتذرون بها، كما في قوله تعالى :

{ وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك } [طه : 134]

وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة .

و معنى قوله : { بَعْدَ الرسل } بعد إرسال الرسل ))

ـ و من أدلة ذلك أيضًا قَوْلِهِ تَعَالَى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } الملك : 8

ـ وَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } الزمر : 71

ـ و قوله : {وما كان الله ليضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم مّا يتّقون إنّ الله بكلّ شيءٍ عليم} التوبة: 115

أما قبل مبعث الرسول، و بلوغ الرسالة فلا مؤاخذة، و هذا واضح ناطق به القرآن، لا يكاد يخفى على أحد علمه .

قال تعالى : {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً} الإسراء: 15.

و كذا المعذرة قائمة بعد مبعث الرسل، إذا لم تبلغ العباد الرسالة على وجه تقوم به الحجة عليهم لحديث الأسود بن سريع، أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال :

(( أربعة يوم القيامة :

ـ رجل أصم لا يسمع شيئًا

ـ و رجل أحمق

ـ و رجل هرم

ـ و رجل مات في فترة

فأما الأصم فيقول : رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا

و أما الأحمق فيقول : رب، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر

و أما الهرم فيقول : رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا

و أما الذي مات في الفترة فيقول : رب، ما أتاني لك رسول

فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار .

قال : فو الذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا و سلامًا. ))

رواه أحمد (16301)، و ابن حبان (7313 )، وصححه الألباني «الصحيحة» "3 / 419" (1434) .

فإذا بلغت الرسالة المكلفين على وجه تقوم به الحجة انتفى العذر، و انقطع عنهم الاعتذار بالاجتهاد لظهور أعلام النبوة و وضوحها .

قال شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 15 / 406 ) : (( و قد ثبت بالكتاب و السنة و الإجماع أن من بلغته رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن به فهو كافر، لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة، و أعلام النبوة. ))

و قال ابن القيم في طريق الهجرتين، طبعة دار ابن القيم – الدمام ( ص 607 ) : (( الطبقة السابعة عشرة:

طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون:

إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم، و مع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعى فى إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.

وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث فى الإسلام. ))

لأنه تكذيب للرسالة، فلا عذر بالجهل في الإقرار المجمل بالإسلام، و لا البراءة من كل دين يخالفه فإن الكافر من أنكر توحيد الله و كذب رسله إما عنادًا و استكبارًا و إما جهلاً و ضلالاً.

2 ـ جهل من خالف صريح الكتاب أو السنة، مع علمه بالنص، و مورده، فمثاله في الأول: أن يُجَوِزَ مثلاً : نكاح زوجة أبيه، فهو مخالف لقوله تعالى : (( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا )) النساء: ٢٢

و يدل لذلك حديث البَرَاءِ، قَالَ: مَرَّ بِي خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَمَعَهُ لِوَاءٌ، فَقُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟

قَالَ: (( بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِهِ.))

[ رواه الترمذي (1362)، وأبو داود (4456) و (4457)، والنسائي ( 6 / 109 و 110 )، وابن ماجه (2607)

وقد اختلف فيه اختلافًا كثيرًا، قال ابن عبد الهادي في التنقيح ( 4 / 529 / 2970 ) : ( هذا الحديث رواه أصحاب " السنن الأربعة، وفي إسناده اختلافٌ. )، و قد صححه الألباني في الإرواء ( 8 / 19 / 2351 ) . ]

و في رواية : ((و آخذ ماله . ))

و هذه الزيادة، هي التي تدل على أن قتله كان ردة لا حدًّا، و إلا فإن الحديث بدونها يدل على غير هذا المعنى .

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 20 / 91، 92 ) : (( حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله

فإن تخميس المال دل على أنه كان كافرًا لا فاسقًا و كفره بأنه لم يحرم ما حرم الله و رسوله. ))

و قال الحافظ في فتح الباري ( 12 / 118 ) : (( و حمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله و قسمته . ))

و قال المناوي في فيض القدير ( 6 / 100 ) : (( قال ابن جرير : و إنما كان متخطئًا حرمتين، لأنه جمع بين كبيرتين :

إحداهما : عقد نكاح على من حرم الله عقد النكاح عليه بنص تنزيله بقوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) النساء : 22

و الثانية : إتيانه فرجًا محرمًا عليه .

و أعظم من ذلك إقدامه عليه بمشهد من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وإعلانه عقد النكاح على من حرم الشارع العقد عليها بكل حال، ونص عليه في كتابه نصًّا لا يقبل تأويلًا ولا شبهة.

ففعله دليل على تكذيبه لمحمد فيما جابه عن الدين، و جحود الحكمة في تنزيله .

فإن كان قد أسلم فهو ردة، و إن كان له عهد فإظهاره لذلك نقض .

فمن ثم أمر بقتله بالسيف فقتله بالسيف ليس لكونه زنا فحسب . ))

و مثال مخالفة صريح السنة : أن يُجَوِزَ مثلاً : الجمع بين المرأة و عمتها أو المرأة و خالتها، فهو مخالف لقوله -صلى الله عليه وسلم- : « لا تنكح المرأة على عمتها، أو المرأة على خالتها».

فهذا و أمثاله إن بلغته الحجة التي يكفر مخالفها، كفر بلا خلاف أعلمه بين أهل العلم .

قال ابن القيم في طريق الهجرتين (611) : (( و أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، و عدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل. ))

و قال ابن تيمية في الرد على البكري (2/ 492) : (( إن تكفير المعين و جواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، و إلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر . ))

وهذا بخلاف الجهل في موضع الاجتهاد، وسيأتي .

عارض الجهل (الجزء الثالث) :

[ الجهل الذي لايصلح عذرًا ]

( المعلوم من الدين بالضرورة )

3ـ الجهل بمعلوم من الدين بالضرورة، لمن نشأ في دار الإسلام، فتمكن من العلم، إذ لا تخفى فيها الأحكام.

و ذلك مثل : وجوب الصلاة، و الصيام، و تحريم الزنا، و شرب الخمر ... و نحوها.

قال ابن رجب في القواعد , القاعدة الثانية و الخمسون ( ص 393) : (( إذا زنى من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين، وادعى الجهل بتحريم الزنا، لم يقبل قوله لأن الظاهر يكذبه، و إن كان الأصل عدم علمه بذلك . ))

و قال ابن قدامة في المغني كتاب المرتد ( 12 / 117 , 118 مسألة 1540) : (( و لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدًا لوجوبها ( يعني الصلاة ) إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب : كحديث الإسلام، و الناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار و أهل العلم، لم يحكم بكفره و عرف ذلك و تثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر.

وأما إذا كان الجاحد لها ناشئًا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها.

وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها و هي الزكاة و الصيام والحج، لأنه مباني الإسلام و أدلة وجوبها لا تكاد تخفى، إذ كان الكتاب و السنة مشحونين بأدلتها و الإجماع منعقد عليها، فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام، غير قابل لكتاب الله تعالى و لا سنة رسوله و لا إجماع أمته.))

أما إذا كان مثل هذا المكلف ممن يمكن من مثله جهل المعلوم من الدين بالضرورة، فهذا لا يكفر بل هو معذور بجهله ؛ حتى تقام عليه الحجة الرسالية و يعلم بالدليل الصحيح ما شرعه الله تعالى من الأحكام، و هذا يختلف باختلاف الزمان و المكان قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 22 / 102، 103 ) : (( و قد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء و الرجال بالبوادي و غير البوادي من يبلغ و لا يعلم أن الصلاة عليه واجبة .

بل إذا قيل للمرأة: صلي، تقول: حتى أكبر وأصير عجوزة، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة، كالعجوز ونحوها.

وفي أتباع الشيوخ طوائف كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم، فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلوات، سواء قيل: كانوا كفارًا، أو كانوا معذورين بالجهل.))

و يدل لهذا حديث عبد الرحمن بن وعلة السبئي، من أهل مصر، أنه سأل عبد الله بن عباس، عما يعصر من العنب؟

فقال ابن عباس : إن رجلًا أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راوية خمر.

فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : هل علمت أن الله قد حرمها ؟

قال : لا.

فسارَّ إنسانًا.

فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : بم ساررته ؟

فقال : أمرته ببيعها.

فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها.

قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها . ))

[ رواه مسلم ( 1579 )، و النسائي ( 4664 ) ]

فهذا الرجل لمَّا أمكن من مثله الجهل عذره النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، مع أنه اعتقد حل الخمر بعد تحريمها .

و هذا مذهب أصحاب النبي عمر، و عثمان، و علي، و عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهم ـ فأما عن الأولين فصريح، و أما عن الآخرين فأقرار منهما لما أخرجه البيهقي عن هشام بن عروة، عن أبيه، " أن يحيى بن حاطب، حدثه قال :

(( توفي حاطب، فأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت، وهي أعجمية لم تفقه، فلم ترعه إلا بحبلها، وكانت ثيبًا، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فحدثه .

فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير.

فأفزعه ذلك .

فأرسل إليها عمر رضي الله عنه فقال : أحبلت ؟

فقالت: نعم، من مرغوش بدرهمين.

فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه.

قال: و صادف عليًّا، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فقال: أشيروا عليًّ.

وكان عثمان رضي الله عنه جالسًا فاضطجع.

فقال علي، وعبد الرحمن : قد وقع عليها الحد.

فقال : أشر عليَّ يا عثمان.

فقال : قد أشار عليك أخواك.

قال : أشر عليَّ أنت.

قال : أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه.

فقال : صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه.

فجلدها عمر ـ رضي الله عنه ـ مائة، وغربها عامًّا .))

[ صحيح لغيره : رواه الشافعي في مسنده ( 253 ) و البيهقي في السنن الكبرى (17065 )، و معرفة السنن و الآثار (16868 ) عن طريق الشافعي، و هذه الطريق هي التي أعلها الألباني في الإرواء ( 7 / 342 / 2314 ) قال :

(( قلت : و هذا إسناد ضعيف , مسلم بن خالد هو الزنجى و فيه ضعف. وابن جريج مدلس وقد عنعنه . ))

لكن الحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف (13644 )، و (13645 )، عن ابن جريج، و قد صرح ابن جريج بالتحديث من طريقه فهذه متابعة قوية لمسلم بن خالد .

و أخرجه عن معمر عن هشام ابن عروة عن أبيه فهذه متابعة من معمر لابن جريج.

و له عنده طريق أخرى عن الثوري، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن حاطب.

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز في التكميل ( ص 170 ) : (( و رواها عبد الرزاق : (7 / 404) من طريق معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن حاطب ... فذكره.

وهذه الأسانيد صحيحة , ومسلم بن خالد شيخ الشافعى الذى أعل به الأثر توبع كما ترى , تابعه عبد الرزاق عن ابن جريج , وابن جريج صرح بالتحديث , وقد تابعه أيضًا معمر بن راشد , فهو ثابت عن عمر وعثمان بلا ريب. )) ]

قال البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى ( 8 / 415 )، و معرفة السنن و الآثار (16869)

4 ـ قيل : والجهل الناتج عن الشبهة غير المستساغة لذوي الهوى كنفاة القدر، و عذاب القبر، والشفاعة، و القائلين بأن الله تعالى لا يتكلم و لا يرى في الآخرة ...

لكونه مخالفًا للدليل الواضح من الكتاب والسنة و إجماع أهل السنة، و يكون بتأويله جاحدًا أصلاً من أصول الدين، لكنه لما كان ناشئًا عن التأويل كان دون جهل الكافر.

و الصحيح أن هذا المتأول يلحق بالقسم الثاني ( الجهل الذي يصلح عذرًا )، و قائل هذا إن كان يخفى عليه بعض ما مرَّ فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية لقوله تعالى : ((مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )) الإسراء: ١٥

و ممن نقل عنه الإعذار به في هذا الموضع الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13 / 418 ) : (( و أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : لله أسماء و صفات لا يسع أحدًا ردها و من خالف بعد ثبوت الحجة عليه، فقد كفر و أما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل و لا الرؤية و الفكر، فنثبت هذه الصفات و ننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: ليس كمثله شيء . ))

[ وانظر : طبقات الحنابلة لأبي الحسين ابن أبي يعلى (1/283-284)، و إثبات صفة العلو لابن قدامة (ص 124، رقم : 109 )، و ذم التأويل له ( ص 23 رقم : 35 )، و : كان حدها الرجم، فكأنه ـ رضي الله عنه ـ درأ عنها حدها للشبهة بالجهالة، وجلدها، وغربها تعزيرًا، والله أعلم.]

و قد استظهر شيخ الإسلام ابن تيمية إعذار الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ به في هذا الموضع بعينه قال في مجموع الفتاوى ( 12 / 487 إلى 489 ) : (( و حقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، و لم يتدبروا أن التكفير له شروط و موانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع .

يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.

فإن الإمام أحمد - مثلًا - قد باشر " الجهمية " الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته و فتنوا المؤمنين و المؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب و الحبس و القتل و العزل عن الولايات و قطع الأرزاق و رد الشهادة و ترك تخليصهم من أيدي العدو بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميًّا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل : القول بخلق القرآن، و يحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية و لا يفتكونه من عدو و لا يعطونه شيئًا من بيت المال و لا يقبلون له شهادة و لا فتيا و لا رواية، و يمتحنون الناس عند الولاية، و الشهادة و الافتكاك من الأسر و غير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، و من لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان .

و من كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه و حبسوه.

و معلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها و إثابة قائلها و عقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها و العقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.

ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه و حبسه و استغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر و لو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة و الإجماع .

و هذه الأقوال و الأعمال منه و من غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، و إن الله لا يرى في الآخرة .

و قد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال:

ـ من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه .

ـ و من لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه .

هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم . ))

و قال الطبري في التبصير ( ص: 132) : (( و لله تعالى ذكره أسماءٌ و صفاتٌ جاء بها كتابه، و أخبر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، و صح عنده قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عنه به الخبر منه خلافه ؛ فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حساً ؛ فمعذورٌ بالجهل به الجاهل .))

و لا شك أن الإعذار بالجهل في هذا الموضع هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ و هو مصرح به في أكثر من موضع .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية الإيمان الأوسط ( 165, 166 ) , و مجموع الفتاوى ( 7 /619): ((و التحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا : إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف : من قال : القرآن مخلوق فهو كافر، و من قال : إن الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول .

فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني،ثم اسحقوني في اليم،فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين».

وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع )).

[ قلت الحديث : رواه البخارى في (3481، 7506)، ومسلم ( 2756) . ]

وقال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى ( 15 / 406 ) : (( و قد ثبت بالكتاب والسنة و الإجماع أن من بلغته رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة .

ولأن العذر بالخطأ حكم شرعي فكما أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر والواجبات تنقسم إلى أركان و واجبات ليست أركانًا، فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور.

والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة و إذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل :

إما أن يلحق بالكفار من المشركين و أهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان .

و إما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضًا من أصول الإيمان .

فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، و تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان و قواعد الدين و الجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه .

وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين : فمعلوم أن المخطئين من المؤمنين بالله و رسوله أشد شبهًا منه بالمشركين و أهل الكتاب .

فوجب أن يلحق بهم و على هذا مضى عمل الأمة قديمًا وحديثًا في أن عامة المخطئين من هؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام التي تجري على غيرهم . هذا مع العلم بأن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، و أولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون .

بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين فهؤلاء كفار في الباطن، و من علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضًا . ))

أما إن كان التأويل و الشبهة صادرين عن غير تكذيب الرسول، ورد الشريعة، و كانا صادرين عن عذر مسوغ في الشرع فلا شك أن هذا عذر

و مما يدل لصحة الإعذار هنا :

ـ حديث أبى هريرة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال : (( أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه

فقال : إذا أنا مت فأحرقونى، ثم اسحقونى، ثم اذرونى فى الريح فى البحر، فوالله لئن قدر على ربى ليعذبنى عذابًا ما عذبه به أحدًا.

قال : ففعلوا ذلك به .

فقال : للأرض أدى ما أخذت.

فإذا هو قائم .

فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟

فقال : خشيتك يا رب - أو قال - مخافتك.

فغفر له بذلك . ))

[رواه البخاري ( 3481 )، و مسلم (2756 ) . ]

قال الحافظ في فتح الباري (6/ 523) : (( قال الخطابي : قد يستشكل هذا، فيقال : كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى ؟

والجواب : أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، و قد ظهر إيمانه بإعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . ))

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى (3/ 231) : (( فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك . ))

و قال ابن قيم الجوزية مدارج السالكين (1/ 338 - 339) : (( و كفر الجحود نوعان :

ـ كفر مطلق عام

ـ و كفر مقيد خاص

فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول .

والخاص المقيد أن يجحد فرضًا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرًا أخبر الله به، عمدًا، أو تقديمًا لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض .

وأما جحد ذلك جهلًا، أو تأويلًا يعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه و أمر أهله أن يحرقوه و يذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، و رحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، و لم يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا أو تكذيبًا. ))

ـ و منها حديث عائشة ـ و فيه قصة ـ ففيه سؤالها :

(( مهما يكتم الناس يعلمه الله ؟

قال: نعم . ))

[ رواه أحمد (25897 )، و مسلم ح (974)، النسائي ح (3962)، واللفظ لأحمد، و النسائي.]

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/ 412 - 413) : (( فهذه عائشة أم المؤمنين : سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟

فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- : نعم .

وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة .

و إن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، و إنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء .

هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، و لهذا لهزها النبي -صلى الله عليه وسلم-

و قال: أتخافين أن يحيف الله عليك و رسوله .

و هذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.

فقد تبين أن هذا القول كفر و لكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها . ))

ـ و من ذلك حديث أبي واقد الليثي : (( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى خيبر، مر بشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم .

فقالوا : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنوط كما لهم ذات أنواط .

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : سبحان الله هذا، كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة .

و الذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ))

[صحيح : رواه أحمد (21390)، و الترمذي (2180). ]

ـ و من ذلك حديث عائشة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- : (( بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقًا فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم، فشجه

فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا : القود يا رسول الله

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : لكم كذا و كذا، فلم يرضوا

فقال : لكم كذا و كذا فلم يرضوا

فقال : لكم كذا وكذا، فرضوا

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم

فقالوا : نعم فخطب رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- : إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم ؟

قالوا : لا

فهم المهاجرون بهم

فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال : أرضيتم ؟

فقالوا : نعم

قال : إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم

قالوا : نعم

فخطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : أرضيتم ؟

قالوا : نعم . ))

[ صحيح : رواه أبو داود (4534)، ابن ماجه (2638)، و النسائي في "الكبرى" (6954). ]

قال ابن حزم في المحلى (10/ 410 - 411) : (( و في هذا الخبر عذر الجاهل، و أنه لا يخرج من الإسلام بما لو فعله العالم الذي قامت عليه الحجة لكان كافراً، لأن هؤلاء الليثيين كذّبوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتكذيبه كفر مجرد بلا خلاف، لكنهم بجهلهم وأعرابيتهم عذروا بالجهالة، فلم يكفروا .))

ـ و من ذلك حديث عبد الله بن أبى أوفى، قال :

لما قدم معاذ من الشام , سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ))

قال : ما هذا يا معاذ ؟

قال : أتيت الشام , فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك .

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فلا تفعلوا .

فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه إياه.))

[ صحيح : رواه أحمد (19623)، و ابن ماجه ( 1853 ) .

و انظر السلسلة الصحيحة ( 3 / 200 و ما بعدها / 1203 )، و صحيح سنن أبي داود ( 6 / 357 / 1857)، و الإرواء ( 7/ 55، 56 ). ]

قلت : و ضابط هذا الباب جملة ما قاله ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ في المغني (12/277 ): ((وكذلك كلُّ جاهل بشيء يُمكن أن يجهله، لا يُحكم بكفره حتى يعرف ذلك، و تزول عنه الشبهة، ويستحله بعد ذلك.))

إقامة أحكام المرتد

على من كفر بالتأويل غير المستساغ

س وهل يلزم إقامة أحكام المرتد على من كفر بالتأويل غير المستساغ لذوي الأهواء , و لم يحكم القاضي المسلم بردته ؟

والإجابة : لا يلزم من ذلك إجراء هذه الأحكام، فإن الصحابة توارثوا توارث المسلمين مع من لا يشكون في نفاقه، و عصموا دماءهم و أموالهم مع تيقنهم من نفاقهم كالذين نزل فيهم القرآن فاضحًا لحالهم مبينًا لنفاقهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإيمان الأوسط ( 163 ـ 165 ) , و مجموع الفتاوى ( 7 / 617 ) : (( فإن كثيرًا من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يُنَاكَح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر .

وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه ـ كابن أبي وأمثاله ـ ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته .

ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم : إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال : « يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،،وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»

فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه : « إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين »

وقال في الحديث الصحيح : « تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق »

فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي -صلى الله عليه وسلم-.

والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال .

والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، و ما من الأئمة إلا من حُكِي عنه في ذلك قولان، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، و إن كانوا قد أتوا من الإلحاد و أقوال أهل التعطيل و الاتحاد .))

عارض الجهل (الجزء الرابع) :

الجهل الذي يصلح عذرًا

الجهل الذي يصلح عذرًا

و من الآخر ( الذي يصلح أن يكون عذرًا ) :

1 ـ الجهل في موضع الاجتهاد الصحيح : كمن قال : بجواز بيع المرابحة للآمر بالشراء مع كون المواعدة فيه ملزمة .

[عرفه د. محمد سليمان الأشقر في كتابه ( بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية ص6) بقوله: ( يتفق البنك والعميل على أن يقوم البنك بشراء البضاعة.. ويلتزم العميل أن يشتريها من البنك بعد ذلك ويلتزم البنك بأن يبيعها له وذلك بسعر عاجل أو بسعر آجل تحدد نسبة الزيادة فيه على سعر الشراء مسبقاً )

فالجهمور: يرى عدم جوازه، منهم مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي لأن الإلزام بالوعد بمنزلة العقد، والعبرة في العقود بمعانيها لا بألفاظها و مبانيها. ]

أو كمن قال : بعدم وقوع طلاق الهازل، لكونه غير قاصد للحكم، وإن قصد اللفظ وهو مع ذلك قائل بضعف الحديث، غير عالم بموقع الإجماع.

أو كمن جوز نكاح الرشيدة بغير ولي، اكتفاء بمباشرتها للعقد، و موافقتها الصريحة.

أو كمن جوز النكاح بغير شاهدي عدل، لقيام الإعلان عنده مقام الشهود .

فهذا و أمثاله إن كان من أهل الاجتهاد فهو معذور عند الله غير مؤاخذ بخطئه، بل هو مأجور لاجتهاده لأن اجتهاده في طلب الحق عبادة، فعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»

[ رواه البخاري ( 7352 )، و مسلم ( 1716 ) . ]

فإن لم يكن من أهل الاجتهاد و تكلف ما ليس له به علم فهو مأزور إن أصاب الحق أو أخطأه، لكن إثمه مع الخطأ أشد، و ذلك لأنه قال على الله بغير علم، قال الله تعالى : (( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) )) البقرة: ١٦٨ – ١٦٩

و قوله : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ )) الأعراف: ٣٣

فالقول على الله بغير علم من اتباع خطوات الشيطان، و هو من أشد المحرمات عند الله تعالى .

قال الخطابي في معالم السنن ( 4/ 149 ) : (( إنما يؤجر المخطىء على اجتهاده في طلب الحق، لأن اجتهاده عبادة و لا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط.

وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعًا لآلة الاجتهاد عارفًا بالأصول و بوجوه القياس .

فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهو متكلف و لا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر بدليل حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « القضاة ثلاثة :

واحد في الجنة واثنان في النار.

أما الذي في الجنة :

ـ فرجل عرف الحق فقضى به .

ـ و رجل عرف الحق فجار في الحكم

ـ و رجل قضى للناس على جهل

فهو في النار. »

وفيه من العلم : ليس كل مجتهد مصيبًا، ولو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن لهذا التفسير معنى.

وإنما يعطى هذا أن كل مجتهد معذور لا غير .

وهذا إنما هو في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل.

فإن من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردوداً .))

[ قلت : حديث ابن بريدة ـ رضي الله عنه ـ صحيح، رواه أبو داود (3573)، والترمذى (1322)، والنسائى فى الكبرى (5922)، وابن ماجه (2315) ]

2 ـ الجهل بالوقائع : كمن تزوج أخته من الرضاع جاهلاً بوقوع الرضاع المحرم شرعًا، و كمن أخذ مال غيره يحسبه له .

3 ـ الجهل من حديث العهد بالإسلام بأحكام هذا الدين : كالجهل بوجوب الغسل من الجنابة، أو الجهل بحرمة الخمر، ونحو ذلك لخفاء الخطاب في حقه .

4 ـ الجهل ببعض الأحكام التي قد تخفى عن بعض العامة : كمن جهل حرمة بيع الكلب، وكمن جهل وجوب الصلاة على المستحاضة، وكمن جهل اشتراط لبس الخف على طهارة كاملة لجواز المسح عليه .

فهذا النوع يسقط عن الجاهل به اللوم، والذم بشرط الاستدراك في زمن الفعل، لحديث يعلى بن أمية عن أبيه :« أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة، وعليه أثر خَلوق

أو قال : صفرة وعليه جبة، فقال : يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟

فأنزل الله تبارك وتعالى على النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي فلما سري عنه، قال : أين السائل عن العمرة ؟

قال : اغسل عنك أثر الخلوق، أو قال الصفرة، واخلع الجبة عنك، واصنع في عمرتك ما صنعت في حجك »

[ رواه البخاري : (1536 , 1789 , 1848 , 4329 , 4985 ) , ومسلم : ( 1180 ) .

و الخلوق : قال ابن عبد لبر في التمهيد ( 2/ 254 ط مؤسسة قرطبة ) :وهو طيب معمول من الزعفران وقد نهى رسول الله المحرم عن لباس ثوب مسه ورس أو زعفران .

وأجمع العلماء على أن الطيب كله محرم على الحاج والمعتمر بعد إحرامه و كذلك لباس الثياب.]

فلم يأمره -صلى الله عليه وسلم- بفدية ولم يلمه و إنما أمر ه بالاستدراك في زمن الفعل.

ولحديث حمنة بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ قالت :

« كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ فَوَجَدْتُهُ في بَيْتِ أُخْتِي ـ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ـ

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إني أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ـ قَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَ الصَّلاَةَ ـ ؟

قال : أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ .

قالت: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .

قال : فَتَلَجَّمِي .

قالت: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .

قال : فَاتَّخِذِي ثَوْبًا .

قالت: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا .

فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم- : سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا صَنَعْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ .

فَقال : إِنَّمَا هي رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ في عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَ اسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّى أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي وَصَلِّي فَإِنَّ ذَلِكِ يُجْزِئُكِ وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي، كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ .

فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ حِينَ تَطْهُرِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ، وَكَذَلِكِ فَافْعَلِي وَصومِي إِنْ قَوِيتِ عَلَى ذَلِكِ .

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إِلَيَّ ».

وفي رواية: قالت:« كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً طَوِيلَةً .

قَالَتْ: فَجِئْتُ إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ .

قالت: فَوَجَدْتُهُ عِنْدَ أُخْتِي زَيْنَبَ .

قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً.

قال : وَمَا هِي ـ أَي هَنْتَاهْ ؟

قُلْتُ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً طَوِيلَةً كَبِيرَةً وَقَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا ؟ قال : أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ. قُلْتُ هُوَ أَكْثَرُ ..الحديث »

[ ( حسن ) رواه أبو داود ( 287)، والتِّرمِذي ( 128)، وابن ماجه (622 )

( وقال الترمذي بعد روايته: هذا حديث حسن صحيح، ثم قال : وسألت محمدًا (ا بن إسماعيل البخاري ) عن هذا الحديث فقال : هو حديث حسن ( صحيح )، وهكذا قال أحمد ابن حنبل هو حديث حسن صحيح ).

غريب الحديث :

الكرسف : بضم الكاف والسين المهملة بينهما راء ساكنة هو: القطن .

الثج : سيلان دماء الهدى والاضاحي يقال ثجه يثجه ثجًا , وعبرت به لتبين كثرة ما ينزف منها.

قال أبو الحسن المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ( 2 / 264 ط : إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية - بنارس الهند) : (واستنقأت) من الإستنقاء وهو مبالغة في تنقية البدن وتنظيفه، وهو في نسخ المشكاة كلها مضبوط بالهمزة دون الياء، وهو استعمال جائز و مسموع، إذ إن همزة ما ليس بمهموز كثير في كلام العرب.

قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب، فيهمزون النبئ. والبرئية، والذرئية والخابئة، نقله السيوطي في المزهر (ج2:ص133).

أي هنتاه : أي يا هذه، وتفتح النون وتسكن وتضم الهاء الآخرة وتسكن. ]

فقد منعت الاستحاضة حمنة الصلاة و الصيام، و هي تظنها حيضًا، أو بمنزلته، فلم يلمها النبي -صلى الله عليه وسلم- و إنما علمها و أمرها بالاستدراك في زمن الفعل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 22 /102 ) : (( و من هذا الباب المستحاضة إذا مكثت مدة لا تصلي لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها ففي وجوب القضاء عليها قولان :

أحدهما : لا إعادة عليها .

كما نقل عن مالك وغيره .

لأن { المستحاضة التي قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- إني حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة منعتني الصلاة والصيام }

أمرها بما يجب في المستقبل ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي .))

ولحديث:

أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- السَّلاَمَ قَالَ :« ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ».

فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ». ثُمَّ قَالَ:« ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ». حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ .

فَقَالَ الرَّجُلُ :وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا عَلِّمْنِي.

قَالَ : « إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ في صَلاَتِكَ كُلِّهَا » .

[ رواه البخاري ( 724، 760، 5897، 6290 )، و مسلم ( 397 ) . ]

فقوله -صلى الله عليه وسلم- : «لم تصل » أي صلاة صحيحة .

وقوله : « تطمئن راكعًا » أي تستقر في ركوعك .

فقد صَلَّى ذلك الصحابي صلاته تلك، و قد حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بفسادها

(بطلانها) و أمره بالإعادة، فلما أعلمه بأنه لا يحسن غيرها، علمه و لم يثرب عليه و أمره بالاستدراك في زمن فعله ذلك و لم يؤاخذه بما مضى .

فدل ذلك على المقصود. و الله أعلم

و رحم الله شيخ الإسلام إذا يقول في مجموع الفتاوى ( 22 / 633، 634 ) : (( بل سنته فيمن كان لم يعلم الوجوب أنه لا قضاء عليه ؛ لأن التكليف مشروط بالتمكن من العلم و القدرة على الفعل .

و لهذا لم يأمر عمر و عمارًا بإعادة الصلاة لما كانا جنبين .

فعمر لم يصل،و عمار تمرغ كما تتمرغ الدابة ظنًا أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء .

و كذلك الذين أكلوا من الصحابة حتى تبين لهم الحبال السود من البيض لم يأمرهم بالإعادة .

و كذلك الذين صلوا إلى غير الكعبة قبل أن يبلغهم الخبر الناسخ لم يأمرهم بالإعادة، و كان بعضهم بالحبشة، و بعضهم بمكة، و بعضهم بغيرها، بل بعض من كان بالمدينة صلوا بعض الصلاة إلى الكعبة و بعضها إلى الصخرة، و لم يأمرهم بالإعادة و نظائرها متعددة .

فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم و العمل .

فمن كان عاجزًا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، و لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها .))

و قد اعتنيت في هذا الباب بنقل بعضًا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية خاصة، لأنه ينسب إليه فيه ما هو منه براء ـ رحم الله علماء المسلمين أحياءهم و أمواتهم ـ أمين .