الحج و العمرة من الهجرة إلى وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
اعتمر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، و حج حجة واحدة هي حجة الإسلام ، و أقام أهل الإسلام الحج بعد الهجرة إلى وفاته ـ صلى الله عليه و سلم ـ ثلاث مرات .
• عمراته ـ صلى الله عليه و سلم ـ :
قال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ( 2 / 86 ) :
(( اعتمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة .
الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أولاهن سنة ست ، فصده المشركون عن البيت ، فنحر البدن حيث صد بالحديبية وحلق هو وأصحابه رءوسهم ، وحلوا من إحرامهم ، ورجع من عامه إلى المدينة .
الثانية : عمرة القضية في العام المقبل ، دخل مكة فأقام بها ثلاثا ، ثم خرج بعد إكمال عمرته ، واختلف : هل كانت قضاء للعمرة التي صد عنها في العام الماضي ، أم عمرة مستأنفة ؟
على قولين للعلماء : وهما روايتان عن الإمام أحمد
إحداهما : أنها قضاء وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
والثانية : ليست بقضاء
وهو قول مالك رحمه الله
والذين قالوا : كانت قضاء ، احتجوا بأنها سميت عمرة القضاء ، وهذا الاسم تابع للحكم .
وقال آخرون : القضاء هنا من المقاضاة ، لأنه قاضى أهل مكة عليها ، لا أنه من قضى قضاء .
قالوا : ولهذا سميت عمرة القضية .
قالوا : والذين صدوا عن البيت ، كانوا ألفًا وأربعمائة ، وهؤلاء كلهم لم يكونوا معه في عمرة القضية ، ولو كانت قضاء لم يتخلف منهم أحد .
وهذا القول أصح ؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر من كان معه بالقضاء .
الثالثة : عمرته التي قرنها مع حجته ، فإنه كان قارنًا لبضعة عشر دليلًا ، سنذكرها عن قريب إن شاء الله .
الرابعة : عمرته من الجعرانة ، لما خرج إلى حنين ، ثم رجع إلى مكة ، فاعتمر من الجعرانة داخلًا إليها .
ففي " الصحيحين " : عن أنس بن مالك قال : ( اعتمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، إلا التي كانت مع حجته : عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته ) . ))
• و أما حجته التي حجها ـ صلى الله عليه و سلم ـ فقد كانت في العام العاشر للهجرة ، و هي المعروفة بحجة البلاغ أو حجة الوداع .
• و لم يحج قبلها و إن أقام أهل الإسلام الحج قبلها مرتين :
الأولى : في العام الثامن للهجرة بعد فتح مكة ، و كان أمير الحج عتاب بن أَسيد ـ رضي الله عنه ـ أمير مكة .
الأخرى : في العام التاسع للهجرة و كان أمير الحج أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.
سياحة فقهيه - فقه أهل الكوفة
هذه الرحلة الممتعة سننطلق إليها من كلمة لمؤرخ الأمة و حافظ ديوان تاريخها الذهبي ـ رحمه الله ـ
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 5 / 237 ) :
(( فأفقه أهل الكوفة: علي، و ابن مسعود، و أفقه أصحابهما: علقمة، وأفقه أصحابه: إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم: حماد، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة، وأفقه أصحابه: أبو يوسف.
وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم: محمد، وأفقه أصحاب محمد: أبو عبد الله الشافعي ـ رحمهم الله تعالى ـ . ))
بنيت الكوفة في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة 17 هـ
فأرسل إليها عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ معلمًا و مفقهًا لأهلها
ثم دخلها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ سنة 36 هـ .
ـ و أفقه من أخذ عنهما علقمة بن قيس النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ و هو من المخضرمين ، وقد كان يستفتيه بعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و قد توفي سنة 65 هـ .
ـ و أفقه أصحاب علقمة ـ رحمه الله تعالى ـ ، إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ و هو ابن أخته و هو مفتي أهل الكوفة في عصره ، و قد توفي سنة 96 هـ .
ـ و أفقه أصحاب إبراهيم النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ ، حماد بن أبي سليمان ـ رحمه الله تعالى ـ و هو من صغار التابعين فقد رأى أنسًا ـ رضي الله عنه ـ و روى عنه ، و أبو سليمان والده مولى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ و قد خلفه إبراهيم على الفتيا بعده لفقهه .
و هو أول من أظهر مذهب مرجئة الفقهاء في الكوفة مع تعظيمه للعمل .
قال الذهبي في السير ( 5 / 233 ) :
(( قال معمر: قلت لحماد : كنت رأسًا، و كنت إمامًا في أصحابك، فخالفتهم، فصرت تابعًا ؟!
قال: إني أن أكون تابعًا في الحق، خير من أن أكون رأسًا في الباطل.
قلت : يشير معمر إلى أنه تحول مرجئًا ـ إرجاء الفقهاء ـ و هو أنهم لا يعدون الصلاة و الزكاة من الإيمان.
و يقولون : الإيمان إقرار باللسان، و يقين في القلب .
و النزاع على هذا لفظي - إن شاء الله -.
و إنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض - نسأل الله العافية - . ))
و توفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 120 هـ .
ـ و أفقه أصحاب حماد ـ رحمه االله تعالى ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي ـ رحمه الله تعالى ـ أفقه أهل الكوفة في عصره ، و إليه انتهت رياسة مدرسة الرأي ، فالناس عيال عليه في الفقه ، و هو صاحب المذهب ولد سنة 80 هـ في عهد صغار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ و لم يصح أنه روى عن أحد منهم .
قال الذهبي في السير ( 6 / 391 ) : (( ولد: سنة ثمانين، في حياة صغار الصحابة.
ورأى: أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم. ))
و قد صاحب حمادًا ثمانية عشر عامًا ، حتى برع في الفقه ، فما يطيق أحد مناظرته .
قال الذهبي ( 6 / 393 ) : (( قال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة، تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيًّا، لجالسه.
وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
قلت: الإمامة في الفقه و دقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.
وليس يصح في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل
وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين - رضي الله عنه، ورحمه -.
توفي: شهيدًا، مسقيًّا، في سنة خمسين ومائة، وله سبعون سنة، وعليه قبة عظيمة، ومشهد فاخر ببغداد - والله أعلم -.
وابنه الفقيه حماد بن أبي حنيفة، كان ذا علم، و دين، و صلاح، و ورع تام.
لما توفي والده، كان عنده ودائع كثيرة، و أهلها غائبون، فنقلها حماد إلى الحاكم ليتسلمها، فقال: بل دعها عندك، فإنك أهل.
فقال: زنها، واقبضها حتى تبرأ منها ذمة الوالد، ثم افعل ما ترى.
ففعل القاضي ذلك، و بقي في وزنها و حسابها أيامًا، و استتر حماد، فما ظهر حتى أودعها القاضي عند أمين.
توفي حماد: سنة ست وسبعين ومائة، كهلًا. ))
ـ و أفقه أصحاب أبي حنيفة النعمان ـ رحمه الله ـ القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ـ رحمه الله ـ صحب أبا حنيفة سبعة عشر عامًا .
قال يحيى البرمكي : قدم أبو يوسف، و أقل ما فيه الفقه، و قد ملأ بفقهه الخافقين.
قال الذهبي : ((قلت: بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، و كان الرشيد يبالغ في إجلاله. ))
توفي سنة 182 هـ
ـ و أفقه أصحاب أبي يوسف ـ رحمه الله ـ محمد بن الحسن الشيباني ـ رحمه الله ـ ، وقد أخذ بعض الفقه على أبي حنيفة و تمم على أبي يوسف .
رحل إلى الإمام مالك ـ رحمه الله ـ و أقام عنده ما يزيد عن ثلاث سنوات ، وسمع منه الموطأ و له رواية مشهورة للموطأ .
قال الذهبي في السير ( 9 / 135 ) : (( قلت: ولي القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف، وكان مع تبحره في الفقه، يضرب بذكائه المثل.
كان الشافعي يقول :
ـ كتبت عنه وقر بختي
و ما ناظرت سمينًا أذكى منه
و لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلتُ؛ لفصاحته. ))
و المذهب عند المتأخرين مبناه على كتب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن و هي :
الجامع الكبير ، و الجامع الصغير ، و السير الكبير ، و السير الصغير ، و الزيادات ، و الأصل ( المبسوط ) .
توفي إلى رحمة الله سنة 189 هـ بالري.
ـ و كان أفقه أصحاب محمد بن الحسن ـ رحمه الله ـ الإمام الشافعي محمد بن إدريس بن العباس ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي، ثم المطلبي، الشافعي، المكي، الغزي المولد، نسيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – و ابن عمه ، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب.
ولد سنة 150 هـ في السنة التي توفي فيها إمام أهل الرأي بلا منازع الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ
ارتحل - وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد أفتى وتأهل للإمامة - إلى المدينة، فحمل عن مالك بن أنس (الموطأ)، عرضه من حفظه.
ثم أخذ عن محمد الحسن في بغداد بعد محنته ، قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي، ليس عليه إلا سماعي.
قال أحمد بن أبي سريج: سمعت الشافعي يقول :
قد أنفقت على كتب محمد ستين دينارًا، ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثًا .
قال الذهبي : - يعني : رد عليه - .
و الشافعي ـ رحمه الله ـ أفقه أصحاب مالك كذلك ، و قد كان ينسب نفسه لمذهبه في مناظراته مع محمد بن الحسن قبل أن يؤسس مذهبه .
نقل الذهبي عن أبي جعفر الترمذي أنه قال: (( أبو جعفر الترمذي: حدثني أبو الفضل الواشجردي، سمعت أبا عبد الله الصاغاني قال: سألت يحيى بن أكثم، عن أبي عبيد، والشافعي، أيهما أعلم؟
قال: أبو عبيد كان يأتينا ها هنا كثيرًا، وكان رجلًا إذا ساعدته الكتب، كان حسن التصنيف من الكتب، وكان يرتبها بحسن ألفاظه، لاقتداره على العربية.
و أما الشافعي، فقد كنا عند محمد بن الحسن كثيرًا في المناظرة، و كان رجلاً قرشي العقل، و الفهم، و الذهن، صافي العقل و الفهم و الدماغ، سريع الإصابة - أو كلمة نحوها –
و لو كان أكثر سماعًا للحديث، لاستغنى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - به، عن غيره من الفقهاء. ))
و هذا الإمام الفذ هو أول من صنف في أصول الفقه ، و اختط الطريق لأهل الحديث ليتفقهوا في الدين .
قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ فيه : ما أحد مس محبرة و لا قلمًا إلا و للشافعي في عنقه منة.
وعنه ـ رحمه الله ـ قال : كان الشافعي من أفصح الناس.
قال إبراهيم الحربي: سألت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن الشافعي، فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح.
قال الحسن الزعفراني: ما قرأت على الشافعي حرفًا من هذه الكتب إلا و أحمد حاضر.
وعن يونس بن عبد الأعلى، قال : ما كان الشافعي إلا ساحرًا، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر، وكان قد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور حجة.
قال محمد بن مسلم بن وارة: سألت أحمد بن حنبل: ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أهي أحب إليك، أو التي بمصر؟
قال: عليك بالكتب التي عملها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق، ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر، فأحكم تلك.
وقلت لأحمد: ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه، رأي مالك، أو الثوري، أو الأوزاعي ؟
فقال لي قولًا أجلهم أن أذكره .
و قال: عليك بالشافعي، فإنه أكثرهم صوابًا، وأتبعهم للآثار.
توفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 204 هـ
و انهي هذه الرحلة مع فقه أهل الكوفة هنا و قبل الملام عليَّ أجتزئ من خاتمة الذهبي في ترجمة هذا الإمام هذه الكلمة :
(( لا نلام و الله على حب هذا الإمام، لأنه من رجال الكمال في زمانه - رحمه الله - ))
عمرة المكي من الحل
عمرة المكي تكون من الحل لحديث عمرو بن أوس أن عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أخبره: ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يردف عائشة و يعمرها من التنعيم ) رواه البخاري (1692 ) .
ـ و قد اعتمر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ دون الميقات عندما أنشأ العمرة في العام الثامن للهجرة في ذي القعدة بعد عوده من حنين و تقسيم الغنائم و كانت من [ الجِعرانة ] ، و الحل من جهتها : المستوفرة .
فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اعتمر أربع عمر في ذي القعدة، إلا التي اعتمر مع حجته.
عمرته من الحديبية
و من العام المقبل
ومن الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين
وعمرة مع حجته. ) رواه البخاري و مسلم .
ـ و اعتمرت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ من الحل بعد حجتها في العام العاشر للهجرة من [ التنعيم ] .
و لذا اعتنى العلماء بذكر حدود الحرم لتعلق كثير من الأحكام به ، و من هذه الأحكام عمرة المكي .
حدود الحرم :
حدود الحرم، على النحو التالي :
ـ من الشمال : التنعيم من جهة المدينة المنورة .
ـ و من الشمال الغربي : الحديبية أو " الشميسى " أو " منقطع الأعشاش " حد الحرم من جهة جدة .
ـ و من الشمال الشرقي " ثنيّة جبل المقطع حد الحرم من جهة العراق .
ـ و من الشرق : طرف عرفة من بطن نمرة "ذات السليم " حد الحرم من جهة الطائف .
ـ و من الجنوب الشرقي : المستوفرة حد الحرم من جهة الجعرانة ، في شعب عبد الله بن خالد بن أسيد .
ـ و من الجنوب الغربي : إضاءة لبن " العكشية " من جهة طريق اليمن .
قال النووي في المجموع ( 7 / 462 ) :
(( و معرفة حدود الحرم من أهم ما يعتنى به ، لكثرة ما يتعلق به من الأحكام، و قد اجتهدت في إيضاحه ، و تتبع كلام الأئمة في إتقانه على أكمل وجوهه ، بحمد الله ـ تعالى ـ
فحد الحرم من جهة المدينة : دون التنعيم عند بيوت بني نفار, على ثلاثة أميال من مكة
ومن طريق اليمن: طرف أضاة لبن على سبعة أميال من مكة
ومن طريق الطائف: على عرفات من بطن نمرة على سبعة أميال
ومن طريق العراق: على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال
ومن طريق الجعرانة: في شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال
ومن طريق جدة، منقطع الأعشاش على عشرة أميال من مكة. ))
ملخص في آداب و أحكام الأضحية
الأضحية لغة ، و اصطلاحًا .
الأضحية لغة فيها أربع لغات :
أُضحية بضم الهمزة .
إضحية بكسر الهمزة .
و أضحاة بفتح الهمزة .
و ضحيَّة .
قال النووي في شرح مسلم ( 6 / 484 ) : (( قال الجوهري : قال الأصمعي : فيها أربع لغات :
أضحية ، وإضحية بضم الهمزة وكسرها ، وجمعها بتشديد الياء وتخفيفها
واللغة الثالثة : ضحية ، وجمعها : ضحايا .
والرابعة : أضحاة بفتح الهمزة ، والجمع : أضحى ، كأرطاة وأرطى ، وبها سمي يوم الأضحى .
قال القاضي : وقيل : سميت بذلك لأنها تفعل في الضحى ، وهو ارتفاع النهار . وفي الأضحى لغتان : التذكير لغة قيس ، والتأنيث لغة تميم . ))
و عد المفضل الضبي في كتابه ما تلحن فيه العامة الرابع ( ضحية ) لحنًا قال :
(( و هي الأُضْحِيّة و الإضحيّة. و العامّة تقول: ضَحِيَّة. ))
و الأضحية في الشرع :
ما يذبح من بهيمة الأنعام في يوم الأضحى و أيام التشريق تقربًا إلى الله .
قال الجرجاني في التعريفات ( ص 45 ) : (( الأضحية اسم لما يذبح في أيام النحر بنية القربة إلى الله تعالى . ))
حكم الأضحية :
اختلف أهل العلم في حكم الأضحية و جمهور أهل العلم على استحبابها ، و ذهب الحنفية إلى القول بوجوبها .
قال النووي في شرح مسلم ( 6 / 484 ) : (( و اختلف العلماء في وجوب الأضحية على الموسر .
ـ فقال جمهورهم : هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر لم يأثم ، ولم يلزمه القضاء ، وممن قال بهذا أبو بكر وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وابن المنذر وداود وغيرهم
ـ و قال ربيعة، و الأوزاعي، و أبو حنيفة، و الليث : هي واجبة على الموسر، وبه قال بعض المالكية
ـ و قال النخعي : واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى
ـ و قال محمد بن الحسن : واجبة على المقيم بالأمصار
ـ و المشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابًا . والله أعلم .))
قلت :
ـ و دليل الجمهور حديث أم سلمة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال « إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره و بشره شيئًا ».
قيل لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه ؟
قال : لكنى أرفعه. رواه مسلم (5232)
و موضع الشاهد فيه تعليق الحكم بإرادة التضحية .
قال ابن المنذر في الإقناع ( 1 / 376 ) : ((عن أم سلمة، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «من رأى منكم هلال ذي الحجة و أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره و لا من أظفاره شيئًا»
فالضحية لا تجب فرضًا استدلالاً بهذا الحديث، إذ لو كَانَ فرضًا لم يجعل ذَلِكَ إِلَى إرادة المضحي. ))
و استدل أيضًا بتضحية النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن أمته بسقوطها عنهم و هو ما رواه مسلم ( 5203 ) من حديث عائشة - رضي الله عنها ـ : (( أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش أقرن يطأ فى سواد ويبرك فى سواد و ينظر فى سواد فأتى به ليضحى به .
فقال لها : « يا عائشة : هلمى المدية ».
ثم قال : « اشحذيها بحجر ».
ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه .
ثم قال : « باسم الله اللهم تقبل من محمد و آل محمد و من أمة محمد ».
ثم ضحى به. ))
و في هذا الاستدلال نظر .
ـ و دليل من قال بالوجوب حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ".
رواه أحمد (8256 ) ، و ابن ماجه (3123) ، الحاكم ( 4/231- 232 ) .
قال الألباني : حسن .
و قد أعله جمع من الأئمة بالوقف منهم الترمذي و صحح وقفه البيهقي في السنن والطحاوي في مختصر اختلاف العلماء، وابن عبد البر في التمهيد، وابن حجر في البلوغ ، و ابن عبد الهادي في التنقيح .
قال الحافظ في الفتح ( 10 / 3 ) : ((و أقرب ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا)
أخرجه ابن ماجه و أحمد
و رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه و وقفه و الموقوف أشبه بالصواب ، قاله الطحاوي و غيره .
و مع ذلك فليس صريحًا في الإيجاب . ))
و قوله : ليس صريحًا ، لأنه شبيه قول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ : « مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَالَ - فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا ، وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ » .
رواه البخاري ( 855 ) و مسلم ( 1281 )
و قد قال النووي في شرح مسلم ( 2 / 324 ) : (( فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به ، و حكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها ؛ لأنها تمنع عن حضور الجماعة . ))
فليس النهي عن قربان المصلى لمن لم يضح صريحًا في التحريم ، كما أن النهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم أو البصل ،لم يكن صريحًا في التحريم .
و قد استظهر شيخ الإسلام الوجوب كما في مجموع الفتاوى ( 23 / 126 ) قال :
(( وأما الأضحية فالأظهر وجوبها أيضًا
ـ فإنها من أعظم شعائر الإسلام
ـ و هي النسك العام في جميع الأمصار
ـ و النسك مقرون بالصلاة في قوله : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } وقد قال تعالى : { فصل لربك وانحر } فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة .
و قد قال تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }
و قال : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون }
{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين }
ـ و هي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته
ـ و بها يذكر قصة الذبيح
ـ فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم ؟
ـ و ترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج في بعض السنين . ))
و هذا كلام متين لو استدل به على الوجوب الكفائي ، لا العيني .
و ما ذهب إليه الجمهور أرجح لأمرين :
الأول : لأنه لم يعرف عن أحد من الصحابة القول بالوجوب .
قال الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء ( 2 / 322 ) :
((و روى الشعبي عن أبي سريحة قال : رأيت أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ و ما يضحيان كراهة أن يقتدى بهما
و قال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشترى له لحمًا ، و يقول من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس
و قال ابن عمر : ليست بحتم ، و لكن سنة ومعروف
قال أبو مسعود الأنصاري : إني لأدع الأضحى و أنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليَّ.))
و قال أبو محمد ابن حزم في المحلى ( 6 / 10 ) : (( لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة.
وصح أن الأضحية ليست واجبة عن سعيد بن المسيب والشعبي و أنه قال: لأن أتصدق بثلاثة دراهم أحب إلي من أن أضحي.
وعن سعيد بن جبير، وعن عطاء، وعن الحسن، وعن طاوس، وعن أبي الشعثاء جابر بن زيد - وروي أيضا عن علقمة، ومحمد بن علي بن الحسين.
وهو قول سفيان، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان - وهذا مما خالف فيه الحنفيون جمهور العلماء.))
الآخر : أن الحديث السابق ليس نصًّا في الوجوب كما مرَّ ، مع الخلاف في رفعه ، و الأصل خلو الذمة من عهدة التكليف .
مم تكون الأضحية ؟
ـ الأضحية لا تجزئ إلا من بهيمة الأنعام : الغنم ( المعز ، و الضأن )، و الإبل ، و البقر ( و الجواميس ) .
ـ و لا يجزئ منها إلا المسنة من بهيمة الأنعام أو جذعة من الضأن .
لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - :
« لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ».
رواه مسلم (1963)، وأبو داود (2797)، والنسائي (7/ 218)، وابن ماجه (3141).
و المسنة من الغنم ما بلغت سنة .
و المسنة من الإبل ما بلغت خمس سنوات .
و المسنة من البقر ما بلغت سنتين .
و الجذعة من الضأن ما بلغت ستة أشهر إلى عشرة أشهر .
قال في المصباح المنير : (( قال ابن الأعرابي : الإجذاع وقت وليس بسن .
فالعناق : تجذع لسنة وربما أجذعت قبل تمامها للخصب فتسمن فيسرع إجذاعها فهي جذعة .
و من الضأن : إذا كان من شابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة ، و إذا كان من هرمين أجذع من ثمانية إلى عشرة . ))
و قال ابن قدامة في المغني مسألة ( 7860 ) : (( قال ـ يعني الخرقي ـ : ( و الجذع من الضأن ما له ستة أشهر ، و دخل في السابع )
قال أبو القاسم : وسمعت أبي يقول : سألت بعض أهل البادية : كيف تعرفون الضأن إذا أجذع ؟
قال : لا تزال الصوفة قائمة على ظهره مادام حملًا ، فإذا نامت الصوفة على ظهره ، علم أنه قد أجذع . ))
و هل يجزئ أقل من المسنة ؟
و هل يقوم التسمين مقام السن ؟
و الإجابة : لا يجزئ إلا الثني من الإبل أو البقر أو المعز فإن لم يجد ذبح جذعة من الضأن ، للحديث السابق ، و وجه الدلالة منه الحصر و القصر في قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : لا تذبحوا إلا مسنة ، فإنه يدل على عدم إجزاء غيرها .
و لحديث الْبَرَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِى شَىْءٍ » .
فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً .
فَقَالَ « اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ » .
قَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ عَامِرٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ تَمَّ نُسُكُهُ ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ » .
و هو نص في خصوصية هذا لأبي بردة ـ رضي الله عنه ـ
و في بعض روايته رد على من قال : إن التسمين يقوم مقام السن ففي الصحيح أنه قال : (( فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله : فعلت .
فقال : « هو شىء عجلته » .
قال : فإن عندى جذعة هى خير من مسنتين ، آذبحها ؟
قال : « نعم ، ثم لا تجزى عن أحد بعدك » .
قال عامر هى خير نسيكته . ))
عمن تجزئ الأضحية ؟
و تجزئ شاة واحدة أو سبع بدنة أو سبع بقرة عن الرجل وأهل بيته، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ المتقدم و فيه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذبح شاة واحدة ثم قال: «بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحَّى به» .
و لحديث عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟
فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، حتى تباهى الناس فصارت كما ترى» صحيح: رواه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147).
ما لا يجزئ من الأضاحي مما بلغ السن ؟
لا يجزئ من الأضاحي :
ـ العوراء واضحة العور ، و لا العمياء من باب الأولى .
ـ العرجاء واضحة العرج ، و الكسيحة من باب أولى .
ـ المريضة واضحة المرض .
ـ الهزيلة شديدة الهزال .
لحديث ـ عن البراء , قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:
(( لا يجوز من الضحايا أربع : العوراء البين عورها , و العرجاء البين عرجها , و المريضة البين مرضها , و العجفاء التي لا تنقي )).
رواه أبو داود (2802) ، و النسائى (2/203) ، و الترمذى (1/283) ، و ابن ماجه (3144) .
قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( 153 ) : ((واتفقوا أن :
ـ العوراء البين عورها
ـ و العمياء البينة العمى
ـ و العرجاء البينة العرج التي لا تدرك السرح
ـ والمريضة البينة المرض
ـ والعجفاء التي لا مخ لها
أنها لا تجزئ في الاضاحي . ))
و قال ابن المنذر في الإقناع ( 1 / 377 ) : (( و في هذا دليل أن كل نقص غير الأربع التي خصهن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جائز، و التام أفضل من الناقص ))
فما دون هذه العيوب كمقطوعة الأذن ، أو كسيرة القرن ، أو التي لا قرن لها ، أو مقطوعة الألية، أو الخصي ...
فعيب غير مؤثر على الراجح ، و تجزئ معه الأضحية ، و إنما هو نقص في الكمال .
و الاستدلال بالحديث السابق قوي ما لم يعارضه معارض ، فإن عارضه شيء ففي الاستدلال به تأمل ، لأنه استدلال بمفهوم العدد .
متى تذبح الأضحية ؟
لا تجزئ الأضحية إن ذبحت قبل صلاة عيد الأضحى ، و يمتد الذبح إلى غروب شمس آخر أيام التشريق .
لحديث البراء - رضى الله عنه - قال سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال : « إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلى ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله ، ليس من النسك فى شىء »
و لحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
« من ذبح قبل الصلاة فليعد » . و هما في الصحيح .
قال ابن المنذر في الإقناع ( 1 / 376 ) : (( و وقت الأضحى يوم النحر، و ثلاثة أيام بعده أيام التشريق . ))
من آداب المضحي :
ـ ألا يأخذ من أظفاره و أشعاره شيئًا إذا دخل ذو الحجة ، حتى يذبح نسيكته .
لحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ، أن النبى - صلى الله عليه و سلم – قال : « إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره وبشره شيئًا ».
رواه مسلم (5232)
قال ابن المنذر في الإقناع ( 1 / 377 ) : (( و إذا دخل العشر لم يأخذ من شعره وأظفاره شيئا إذا أراد أن يضحي. ))
و هذا النهي للتحريم عند ابن المسيب ، و ربيعة ، و أحمد ، و إسحاق ، و داود ، و بعض أصحاب الشافعي .
و هو للتنزيه عند الجمهور لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ : « كنتُ أفتل قلائد بُدن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يقلده و يبعث به، و لا يحرم عليه شيء أحلَّه الله حتى ينحر هديه . » رواه البخاري (1698)، ومسلم (1321).
ـ ألا يجعل جلد الأضحية أو شيئًا منها أجرة للجزار ، و لا يبيع الجلد ، بل يهديه أو يستخدمه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : « من باع جلد أضحيته فلا أضحية له »
رواه الحاكم (3468 ) ، و قال : حديث صحيح مثل الأول ولم يخرجاه ، و البيهقي في الكبرى (19015) ، و قد حسنه الألباني .
و لحديث عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ «أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره أن يقوم على بُدنْه، وأن يقسم بُدنه كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطى في جزارتها شيئًا» رواه البخاري (1717)، ومسلم (1317).
ـ أن يباشر الذبح بنفسه إن كان يستطيع ، و يقول : بسم الله ، اللهم تقبل من فلان و آل فلان .
لحديث عائشة ففيه أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ : (( أخذ الكبش فأضجعه ، ثم ذبحه ، ثم قال : « باسم الله ، اللهم تقبل من محمد ، و آل محمد ، و من أمة محمد ». ثم ضحى به. ( سبق تخريجه )
ـ يستحب له أن يأكل من أضحيته ، و يدخر إذا شاء ، و يهدي الأهل و الجيران ، و يتصدق على الفقراء .
لقول الله تعالى: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } الحج: 28.
و لحديث أنس بن مالك قال قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر : « من كان ذبح قبل الصلاة فليعد » .
فقام رجل ، فقال : يا رسول الله : إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم - وذكر جيرانه )
رواه البخاري (5549 ) ، و مسلم (5191 ) .
تقبل الله منكم ضحياكم .
الندرة .. والوفرة .. والكفاية
الحمد لله ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأحكم الكون إحكامًا بديعًا ، وحمى السماء أن تقع على الأرض بقدرته ، وخلق الأحياء كلها وجعل بعضها نفعًا لبعض في غذاء ودواء ومتاع ، وتعهد لكل بأجل قدره ورزق معلوم ضمنه سبحانه وتعالى .
والاقتصاديون حديثًا يبنون علومهم على أساس الندرة ، أي ؛ قلة الموارد عن كفاية الحاجات من أجل ذلك فإنك ترى دعاتهم يدعون الناس إلى تحديد النسل خوفًا من كثرة الاستهلاك وحدوث المجاعات ويدعون المرأة للخروج من البيت ، ويزعمون أنها بذلك تزيد الإنتاج ، غاضين الطرف عن وظائفها المتعددة العامة وهي في بيتها قارة فضلاً عن دفع الإيذاء الكثير الناتج عن خروجها واختلاطها بالرجال .
والحقيقة أن الله بنى الكون على الوفرة ، أما الندرة فهي ظاهرة لها أسبابها وعلاجها ، فمن أسباب الندرة التكاسل والتظالم والإهمال ، بمعنى أن أسماك البحار كثيرة ، لكن الإنسان قعد عن استخراجها وصيدها ، وما اصطاده منها استأثر به الأغنياء دون الفقراء ، أي ؛ تظالموا في تقسيمه ، وما ادخروه منه لم يجيدوا له حفظًا فأتلفوا كثيرًا منه بحيث لو أنهم واسوا الفقراء ببعض ما أهملوه لما شكى أحد من جوع عملاً بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) ،فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (1) .
ومثال ذلك أيضًا في الأرض استغلالاً بين مسكن وزراعة تكاسل الإنسان في زرعها وتوزيع المدن فيها ، بل تكاسل عن جني ثمار الأشجار الطبيعية منها وما زرعوه تظالموا في تقسيم نتاجه ، ثم أهملوا في استخدام الكثير منه ، فتلف فظهر بذلك ما يسمونه بالندرة .
أما الوفرة فهي حقيقة ، فمع أن مساحة اليابس من الكرة الأرضية ربعها إلا أن الإنسان لم يعمر من ذلك الربع عُشره ، بل في مصر لم يستخدم أهلها حتى اليوم إلا أربعة بالمائة منها ، فيها زراعتهم ومساكنهم ومصانعهم وطرقهم ، ومع ذلك كله يبقى قرابة 96 % فارغًا لم يعمروه بعد ، بل إن القدماء المصريين سكنوا من الأرض أجزاء لم يسكنها المعاصرون ولا تزال آثارهم شاهدة على ذلك .
ثم انظر من حولك لترى الهواء والماء والأرض والشجر ، ترى الوفرة خلقها الله تعالى في كل شيء ، ومن ذلك الملائكة الذين نؤمن بهم ، منهم ملائكة يكتبون ، وملائكة يحفظون ، وملائكة بالأرحام والمطر موكلون وبالمساجد وبالبيوت والأرواح ملائكة موكلون كذلك ، بل وملائكة سياحون يلتمسون مجالس الذكر وملائكة يتعاقبون فينا بالليل وبالنهار ، فأي وفرة تلك.
ومن مظاهر الوفرة أن المرأة تنتج في عمرها ما يزيد عن أربعمائة بويضة كل منها صالح لإنتاج إنسان أو أكثر ، ومع ذلك فإن متوسط الإنجاب من ذلك يبلغ واحدًا بالمائة ، أما عن ماء الرجل فحدث عن الوفرة فيه فهو بالبلايين .
ومن صور الوفرة ما في جسد الإنسان من أجهزة ، فالكبد يكفي منه القدر اليسير لأداء الوظائف الازمة ، والكليتان يكفي جزء يسير من واحدة منهما للعمل ، كل ذلك خلقه الله تعالى بوفرة بالغة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه ، فالندرة ظاهرة لها أسبابها وسبل علاجها ، والوفرة حقيقة ماثلة واضحة .
وإن أهم أسباب علاج الندرة هو العلاج الشرعي ، فمع وجود وسائل مادية للعلاج ، لكن الذي ينقصنا حقًا هو الوسائل الشرعية ، خاصة وأنها تشمل الوسائل المادية ضمنًا ، فالعلاج إذا هو طاعة الله سبحانه . يقول سبحانه على لسان نبيه نوح ، عليه السلام : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) [ نوح : 10 -12] ، وعلى لسان هود ، عليه السلام : ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) [هود :52] ، وفي سورة (الأعراف) يقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ الأعراف : 96] ، وفي (سنن أبي داود) كتاب الزكاة باب صدقة الزرع قال : (شبرت قثاءة بمصر ثلاثة عشر شبرًا ، ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على مثل عدلين).
فهل يعود الخلق إلى الطاعة إخراجًا للزكاة وعبادة الله فيعود إليهم الخير الذي قطع بسبب معاصيهم وهجرهم لشرع الله : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد :11] .
لكن علينا أن نعلم أن الله خلق كل شيء بقدر ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [الحجر :21] ، فالشمس بضوئها وحرارتها تنتشر على الأرض يابسها وبحارها ، فتبخر من مائها سحبًا تسوقها الرياح إلى حيث قدر الله تعالى ، تجري بها الأنهار وتتجمع في باطن الأرض لتستخرج بالآبار ، فإن ظننا وفرة في الشمس حرارة وضوءًا ، ووفرة في البحار التي تغطي ثلاثة أرباع الأرض ، إلا أن الماء النازل بقدر ، وإن كان لا ينزل عن حد الوفرة بحيث يصب من الأنهار الماء العذب في البحار ، فضلاً عن إهمال ما يتلف منه بإلقاء الفضلات التي تفسده ، وذلك إنما أوجده رب العزة ليعالج ما عند الخلق من تكاسل وإهمال وتظالم فيبقى الأمر عند القدر الذي يبلغ حد الكفاية للخلق .
وبعد ؛ فإن كان الكبد فيه وفرة والكلى كذلك إلا أن النتيجة هي الكفاية ، فهل يجوز التبرع بالأعضاء بحجة أنها خلقت على الوفرة - وهي كذلك - لكن النتيجة التي عليها العمل هي الكفاية . وكذلك أندعو لتحديد النسل لأن الموارد فيها ندرة ؟! والخالق سبحانه يقول : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [الحجر : 21] .
والله من وراء القصد
بقلم فضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين رحمه الله
(1) رواه مسلم .
دعم وتطوير حلول سوفت | |