الأحكام الشرعية منوطة بعللها ، لا بحكمها

 

الأحكام الشرعية منوطة بعللها ، لا بحكمها ، في قول جمهور أهل العلم .

 

و بيان ذلك :

 

ـ أن العلة : وصف ظاهر منضبط ، مناسب لتعليق الحكم به .

فمن أمثلة العلة : السفر ، فهو وصف ظاهر منضبط أنيط به جواز القصر و الفطر.

 

ـ و قد تكون هذه العلة متعدية ، و هي ما تجاوزت المحل الذي وجدت فيه إلى غيره ، فهي حينئذ : الوصف الجامع بين الأصل و الفرع .

 

فمن أمثلة العلة المتعدية : الإسكار .

و بيان ذلك المثال : أن الله تعالى حرم الخمر ، فقال : (( إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه )) .

و الخمر لغة : ما أسْكَرَ من عَصيرِ العِنَبِ ، و اختلف أهل اللغة في غيره من سائر الفواكه.

فعلة التحريم هنا : كونه مسكرًا ، فقد حُرِّمَتْ الخمر ، و ما بالمدينةِ خَمْرُ عِنَبٍ، و ما كانَ شَرَابُهُم إلا البُسْرَ و التَّمْرَ .

فقد ألحقت سائر المسكرات بها لهذه العلة ، و لو لم تكن من العنب ، و سواء كانت مائعة أو غير مائعة .

و إنما يلحق الفرع بالأصل ، إذا وجدت فيها العلة كوجودها في الأصل ، فتنطبق علة الأصل على الفرع كانطباق الكف على الكف .

 

ـ و قد تكون العلة قاصرة لا تتعدى محلها ، مثل المرض و السفر فهما علتان لجواز الفطر للصائم ، قال تعالى : (( و من كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر ))

و هاتان العلتان قاصرتان فلا يلحق بهما غيرهما .

 

ـ و أما حكمة التشريع : فهي الغاية التي قد شرع الحكم لأجلها ، فهي وصف ظاهر ، و قد تكون وصفًا منضبطًا ، و قد تكون وصفًا غير منضبط .

 

و قد اختلف أهل العلم في تعدية الحكم بها على ثلاثة أقوال إجمالاً :

الأول : الجواز مطلقًا .

الثاني : المنع مطلقًا .

الثالث : التفصيل ، فما كان منضبطًا قيس عليه ، و ما كان غير منضبط فلا قياس عليه ، و هو أشبه الأقوال بالصواب .

 

ـ و قد أجمع أهل العلم على جواز التعليل بالوصف المشتمل على الحكمة .

قال في الابهاج : (( و أطبق الكل على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها ما حاد عن ذلك قياس كالقتل و الزنا و السرقة و غير ذلك . ))

 

و بيان ذلك :

ـ أن الشرع حرم القتل العمد العدوان ، و جعل ذلك علة القصاص ، و حكمة التشريع فيه : حفظ الأنفس .

ـ و حرم السرقة [ و هي : أخذ المال المحترم البالغ نصاباَ , من حرز مثله على وجه الاختفاء , بلا شبهة . ] ، و جعل ذلك مناطًا لقطع اليد ، و حكمة التشريع في ذلك حفظ المال .

 

لماذا قررت ما مرَّ :

 

لهذا السؤال :

 

سأل أحد إخواني عن حكم الخروج على الحاكم الجائر ، و هل يجوز الخروج عليه إن أمنت الفتنة ؟

فنقلت الإجماع على الشق الأول من السؤال ، قال النووي في شرح مسلم ( 6 / 314 / 3427 ) :

(( و أما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين .

وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته ، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق ، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل ، وحكي عن المعتزلة أيضا ، فغلط من قائله ، مخالف للإجماع .

    قال العلماء : وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن ، وإراقة الدماء ، وفساد ذات البين ، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه . ))

فقال : و هل يجوز الخروج عليه إن أمنت الفتنة لقول النووي :

(( قال العلماء : و سبب عدم انعزاله و تحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن ، وإراقة الدماء ، و فساد ذات البين ، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه . )) ؟

 

فقلت : لا .

 

و إنما ذكر النووي العلة من منع الخروج عليه ، و هي : انعقاد الولاية له .

 

و دليلها :

 

- حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم:

إِنَّهَا سَتَكُونُ بَـعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُـنْــكِرُونَهَا

قَالُوا : يَا رَسُولَ الله ، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟

قَالَ: تُؤَدُّونَ الْـحَقَّ الَّذِي عَـلَيْـكُمْ وَتَسْأَلُونَ الله الَّذِي لَــــكُمْ.

                                                                                                       رواه البخاري (3603)، ومسلم (1846)

 

ـ و حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: عَلَى الْـمَرْءِ الْـمُسْلِمِ الـسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَـا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِـمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ.

رواه البخاري (2955)، ومسلم (1709)

 

ـ و عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا:

أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَ مَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ الله فِيهِ بُرْهَانٌ.

                                                                                                        رواه البخاري (7056)، ومسلم (1843)

 

ـ و ذكر الحكمة من منع الخروج ، و هي ما مرَّ ، و ما مر من وصف منع لأجله الخروج ، و هو وصف كاشف ، أو على الأقل أغلبي ، لا مفهوم له ( ليس له مفهوم مخالفة ) .

فذكر ـ رحمه الله تعالى ـ الوصف المشتمل على الحكمة ، و ذلك واضح بَيّنٌ .

 

 

فتنبه لذلك أيها الموفق ، و دع عنك بنايات الطريق .