سياحة فقهيه - فقه أهل الكوفة

هذه الرحلة الممتعة سننطلق إليها من كلمة لمؤرخ الأمة و حافظ ديوان تاريخها الذهبي ـ رحمه الله ـ

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 5 / 237 ) :

(( فأفقه أهل الكوفة: علي، و ابن مسعود، و أفقه أصحابهما: علقمة، وأفقه أصحابه: إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم: حماد، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة، وأفقه أصحابه: أبو يوسف.

وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم: محمد، وأفقه أصحاب محمد: أبو عبد الله الشافعي ـ رحمهم الله تعالى ـ . ))

بنيت الكوفة في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سنة 17 هـ

فأرسل إليها عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ معلمًا و مفقهًا لأهلها

ثم دخلها علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ سنة 36 هـ .

ـ و أفقه من أخذ عنهما علقمة بن قيس النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ و هو من المخضرمين ، وقد كان يستفتيه بعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و قد توفي سنة 65 هـ .

ـ و أفقه أصحاب علقمة ـ رحمه الله تعالى ـ ، إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ و هو ابن أخته و هو مفتي أهل الكوفة في عصره ، و قد توفي سنة 96 هـ .

ـ و أفقه أصحاب إبراهيم النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ ، حماد بن أبي سليمان ـ رحمه الله تعالى ـ و هو من صغار التابعين فقد رأى أنسًا ـ رضي الله عنه ـ و روى عنه ، و أبو سليمان والده مولى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ و قد خلفه إبراهيم على الفتيا بعده لفقهه .

و هو أول من أظهر مذهب مرجئة الفقهاء في الكوفة مع تعظيمه للعمل .

قال الذهبي في السير ( 5 / 233 ) :

(( قال معمر: قلت لحماد : كنت رأسًا، و كنت إمامًا في أصحابك، فخالفتهم، فصرت تابعًا ؟!

قال: إني أن أكون تابعًا في الحق، خير من أن أكون رأسًا في الباطل.

قلت : يشير معمر إلى أنه تحول مرجئًا ـ إرجاء الفقهاء ـ و هو أنهم لا يعدون الصلاة و الزكاة من الإيمان.

و يقولون : الإيمان إقرار باللسان، و يقين في القلب .

و النزاع على هذا لفظي - إن شاء الله -.

و إنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض - نسأل الله العافية - . ))

و توفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 120 هـ .

 


 

ـ و أفقه أصحاب حماد ـ رحمه االله تعالى ـ أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي ـ رحمه الله تعالى ـ أفقه أهل الكوفة في عصره ، و إليه انتهت رياسة مدرسة الرأي ، فالناس عيال عليه في الفقه ، و هو صاحب المذهب ولد سنة 80 هـ في عهد صغار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ و لم يصح أنه روى عن أحد منهم .

قال الذهبي في السير ( 6 / 391 ) : (( ولد: سنة ثمانين، في حياة صغار الصحابة.

ورأى: أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم. ))

و قد صاحب حمادًا ثمانية عشر عامًا ، حتى برع في الفقه ، فما يطيق أحد مناظرته .

قال الذهبي ( 6 / 393 ) : (( قال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة، تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حيًّا، لجالسه.

وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس.

وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

قلت: الإمامة في الفقه و دقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.

وليس يصح في الأذهان شيء * إذا احتاج النهار إلى دليل

وسيرته تحتمل أن تفرد في مجلدين - رضي الله عنه، ورحمه -.

توفي: شهيدًا، مسقيًّا، في سنة خمسين ومائة، وله سبعون سنة، وعليه قبة عظيمة، ومشهد فاخر ببغداد - والله أعلم -.

وابنه الفقيه حماد بن أبي حنيفة، كان ذا علم، و دين، و صلاح، و ورع تام.

لما توفي والده، كان عنده ودائع كثيرة، و أهلها غائبون، فنقلها حماد إلى الحاكم ليتسلمها، فقال: بل دعها عندك، فإنك أهل.

فقال: زنها، واقبضها حتى تبرأ منها ذمة الوالد، ثم افعل ما ترى.

ففعل القاضي ذلك، و بقي في وزنها و حسابها أيامًا، و استتر حماد، فما ظهر حتى أودعها القاضي عند أمين.

توفي حماد: سنة ست وسبعين ومائة، كهلًا. ))

ـ و أفقه أصحاب أبي حنيفة النعمان ـ رحمه الله ـ القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ـ رحمه الله ـ صحب أبا حنيفة سبعة عشر عامًا .

قال يحيى البرمكي : قدم أبو يوسف، و أقل ما فيه الفقه، و قد ملأ بفقهه الخافقين.

قال الذهبي : ((قلت: بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، و كان الرشيد يبالغ في إجلاله. ))

توفي سنة 182 هـ

ـ و أفقه أصحاب أبي يوسف ـ رحمه الله ـ محمد بن الحسن الشيباني ـ رحمه الله ـ ، وقد أخذ بعض الفقه على أبي حنيفة و تمم على أبي يوسف .

رحل إلى الإمام مالك ـ رحمه الله ـ و أقام عنده ما يزيد عن ثلاث سنوات ، وسمع منه الموطأ و له رواية مشهورة للموطأ .

قال الذهبي في السير ( 9 / 135 ) : (( قلت: ولي القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف، وكان مع تبحره في الفقه، يضرب بذكائه المثل.

كان الشافعي يقول :

ـ كتبت عنه وقر بختي

و ما ناظرت سمينًا أذكى منه

و لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلتُ؛ لفصاحته. ))

و المذهب عند المتأخرين مبناه على كتب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن و هي :

الجامع الكبير ، و الجامع الصغير ، و السير الكبير ، و السير الصغير ، و الزيادات ، و الأصل ( المبسوط ) .

توفي إلى رحمة الله سنة 189 هـ بالري.

ـ و كان أفقه أصحاب محمد بن الحسن ـ رحمه الله ـ الإمام الشافعي محمد بن إدريس بن العباس ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي، ثم المطلبي، الشافعي، المكي، الغزي المولد، نسيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – و ابن عمه ، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب.

ولد سنة 150 هـ في السنة التي توفي فيها إمام أهل الرأي بلا منازع الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ

ارتحل - وهو ابن نيف وعشرين سنة، وقد أفتى وتأهل للإمامة - إلى المدينة، فحمل عن مالك بن أنس (الموطأ)، عرضه من حفظه.

ثم أخذ عن محمد الحسن في بغداد بعد محنته ، قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي، ليس عليه إلا سماعي.

قال أحمد بن أبي سريج: سمعت الشافعي يقول :

قد أنفقت على كتب محمد ستين دينارًا، ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثًا .

قال الذهبي : - يعني : رد عليه - .

و الشافعي ـ رحمه الله ـ أفقه أصحاب مالك كذلك ، و قد كان ينسب نفسه لمذهبه في مناظراته مع محمد بن الحسن قبل أن يؤسس مذهبه .

نقل الذهبي عن أبي جعفر الترمذي أنه قال: (( أبو جعفر الترمذي: حدثني أبو الفضل الواشجردي، سمعت أبا عبد الله الصاغاني قال: سألت يحيى بن أكثم، عن أبي عبيد، والشافعي، أيهما أعلم؟

قال: أبو عبيد كان يأتينا ها هنا كثيرًا، وكان رجلًا إذا ساعدته الكتب، كان حسن التصنيف من الكتب، وكان يرتبها بحسن ألفاظه، لاقتداره على العربية.

و أما الشافعي، فقد كنا عند محمد بن الحسن كثيرًا في المناظرة، و كان رجلاً قرشي العقل، و الفهم، و الذهن، صافي العقل و الفهم و الدماغ، سريع الإصابة - أو كلمة نحوها –

و لو كان أكثر سماعًا للحديث، لاستغنى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - به، عن غيره من الفقهاء. ))

و هذا الإمام الفذ هو أول من صنف في أصول الفقه ، و اختط الطريق لأهل الحديث ليتفقهوا في الدين .

قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ فيه : ما أحد مس محبرة و لا قلمًا إلا و للشافعي في عنقه منة.

وعنه ـ رحمه الله ـ قال : كان الشافعي من أفصح الناس.

قال إبراهيم الحربي: سألت أبا عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن الشافعي، فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح.

قال الحسن الزعفراني: ما قرأت على الشافعي حرفًا من هذه الكتب إلا و أحمد حاضر.

وعن يونس بن عبد الأعلى، قال : ما كان الشافعي إلا ساحرًا، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر، وكان قد أوتي عذوبة منطق، وحسن بلاغة، وفرط ذكاء، وسيلان ذهن، وكمال فصاحة، وحضور حجة.

قال محمد بن مسلم بن وارة: سألت أحمد بن حنبل: ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين، أهي أحب إليك، أو التي بمصر؟

قال: عليك بالكتب التي عملها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق، ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر، فأحكم تلك.

وقلت لأحمد: ما ترى لي من الكتب أن أنظر فيه، رأي مالك، أو الثوري، أو الأوزاعي ؟

فقال لي قولًا أجلهم أن أذكره .

و قال: عليك بالشافعي، فإنه أكثرهم صوابًا، وأتبعهم للآثار.

توفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 204 هـ

و انهي هذه الرحلة مع فقه أهل الكوفة هنا و قبل الملام عليَّ أجتزئ من خاتمة الذهبي في ترجمة هذا الإمام هذه الكلمة :

(( لا نلام و الله على حب هذا الإمام، لأنه من رجال الكمال في زمانه - رحمه الله - ))