النـــــــــــذر آداب و أحكام
إنَّ الحمد لله، نحمـده، ونستعينه، ونستغفره، ونــــــعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهــــده الله؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هادي له .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده و رسوله.
أما بعد :
فالنذر قربة من القرب المشروعة قال الله ـ تعالى ـ : { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار } البقرة : 270
وقال : { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورًا . عينًا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرًا . يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرًا } الدهر : 5-7
فجعله الله تعالى من أخص صفات المؤمنين التي يمدحون بها .
و النذر قربة من القرب وعبادة قديمة قال الله ـ عزَّ و جلَّ ـ : { إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } آل عمران : 35 .
فنذرت أمرأت عمران ما في بطنها لله ، ورجت منه القبول .
وأمر الله ـ تعالى ـ مريم بنذر الصمت ـ وهذا يدل على مشروعيته في شريعتهم ـ فإذا رأت من البشر أحدًا فسألها عن ولدها أخبرتها بذلك .
قال الله ـ تعالى ـ : { فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًّا } مريم :26
· تعريف النذر .
النذر : إيجاب المكلف على نفسه ، ما لم يجب عليه بأصل الشرع .
و المكلف : البالغ ، العاقل ، الفاهم للخطاب ، المختار ، العالم بحكمه .
فغير البالغ ، و المجنون ، و الغافل عن الخطاب : كالنائم و الناسي و الساهي ، و المكره ، و الجاهل بحكمه ، لا يجب عليهم الوفاء به ، لو أوجبوه على أنفسهم .
و أما الكافر لو نذر فإنه يجب عليه الوفاء به ، و هو في ذمته لو أسلم لحديث ابن عمر - رضى الله عنهما - أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت نذرت فى الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟
قال : « فأوف بنذرك » . رواه البخاري (2032 ، 2042 ، 6697) ، و مسلم (4382 ).
· الحكم العام للنذر :
نذر الطاعة المطلق مستحب على الصحيح ، و لذا امتدح الله الوفاء به قال تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج : 29
و إنما يكره النذر المعلق ، الذي يعلقه الناذر على تحقق شرط ، فصار كعقد المعاوضة و هذا قادح في نية القربة الخالصة .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهماـ قال: نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النذر، وقال:
«إنه لا يرد شيئًا، وإنما يستخرج به من البخيل» رواه البخاري (6608 ) ، و مسلم (1639) .
· أحكام النذر و صوره :
للنذر أحكام يمكن إجمالها بتصور أقسامه ، و يمكن تقسيم النذر إلى ثلاثة أقسام إجمالاً باعتبارات مختلفة .
· القسم الأول : باعتبار حال الناذر :
و ينقسم إلى قسمين :
1 ـ نذر الرضى .
و حكمه يعرف ( بمتعلقه من التقسيم القادم ) .
2 ـ نذر اللجاج ( الغضب ) ، و سمي بذلك لأن اللجاج و الغضب يحملان عليه غالبًا.
و هو كل نذر ينذره المكلف يريد به منع النفس من فعل شيء أو تركه أو تأكيد شيء لا يريد بذلك وجه القربة على التحقيق ، كأن يقول : إن فعلت كذا ، أو تركت كذا فعليَّ لله صوم كذا ، أو صلاة كذا .
وحكمه : أنه لا يجب الوفاء به و كفارته كفارة يمين على الراجح ، عن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: « لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين . » رواه النسائي (3846), و أحمد (4/433) ، و أبو داود الطيالسي (878) ، و هو حديث ضعيف فيه مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ و قد رواه عن أبيه عن عمران .
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النسائي : (( مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ ضَعِيفٌ لَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . ))
و قال : " وقيل : إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين "
قال ابن قدامة في المغني (13/461) : (( إذا أخرج النذر مخرج اليمين , بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئًا , أو يحث به على شيء
مثل أن يقول : إن كلمت زيدًا , فلله علي الحج , أو صدقة مالي , أو صوم سنة . فهذا يمين , حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه , فلا يلزمه شيء , وبين أن يحنث , فيتخير بين فعل المنذور , وبين كفارة يمين , ويسمى نذر اللجاج والغضب , ولا يتعين عليه الوفاء به ))
و قال الصردفي في المعاني البديعة ( 1 / 414 ) : ((مَسْأَلَةٌ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وعمر وابن عَبَّاسٍ وأبي هريرة وعائشة وحفصة وأم سلمة َوَأَحْمَد وإِسْحَاق إذا نذر قربة في لجاج أو غضب، فإن قال: إن كلمت فلانًا فلله عليَّ صلاة، أو صدقة مالي، أو مالي في سبيل الله، أو صدقة فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين الوفاء بما نذر.
وعند عَطَاء يلزمه كفارة يمين، وله إسقاطها بأن يفي بما نذر إن كان أكثر من الكفارة، وإن كان أقل لم يكن له ذلك، وهو قول الشَّافِعِيّ أيضًا.
وعند أبي حَنِيفَةَ يلزمه الوفاء بما نذر بكل حال، وهو قول للشافعي أيضًا.))
· القسم الثاني : باعتبار متعلق النذر :
و ينقسم إلى ثلاثة أقسام إجمالاً :
1 ـ نذر الطاعة [ سواء كانت واجبة عند من قال بجوازه ، مثل أن يقول : لله عليَّ أن أصلي ، أو أصلي في أوَّل الوقت ، أو مستحبة كصوم أو صلاة أو صدقة أو نحوها ... ]
حكمه : يجب الوفاء به إذا كان تحت الطاقة و السعة و القدرة ، و لايجب الوفاء به إن خرج عنها ، و كفارته كفارة يمين .
2 ـ نذر المنهي عنه [ سواء كان معصية كنذر شرب الخمر ،أو نذر المرأة صوم أيام حيضها ، أو مكروهًا كنذر صيام أيام التشريق ]
حكمه : لا يجوز الوفاء به ، قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( ص 259 الإجماع رقم : 1007 بترقيمي ) : (( و اتفقوا أن من نذر معصية ، فإنه لا يجوز له الوفاء بها .
و اختلفوا أيلزمه لذلك كفارة أم لا . ))
قلت : و فيه الكفارة لتعلق الإيجاب بالنفس عند ابن عباس و ابن مسعود و وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، و هو مذهب الحنفية و هو الراجح .
لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين» رواه النسائي ( 3834 )، [قال الألباني: صحيح ] .
و عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
« من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين
ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين
ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين
ومن نذر نذرًا أطاقه فليف به » رواه أبو داود (3322 )
قال أبو داود : روى هذا الحديث وكيع وغيره عن عبد الله بن سعيد بن أبي الهند أوقفوه على ابن عباس .
نقل
ـ و ذهب الجمهور المالكية و الشافعية و رواية عن أحمد إلى أنه لا كفارة فيه و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
قال الصردفي في المعاني البديعة ( 1 / 414 ) : (( مَسْأَلَةٌ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِك وبعض الصحابة والتابعين إذا كان المنذور لأجله معصية لم ينعقد، ولا يلزمه كفارة يمين.
وعند أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وإِسْحَاق ومن الزَّيْدِيَّة النَّاصِر يلزمه كفارة يمين. ))
لحديث عائشة - رضي الله عنها - : قالت : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
« من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه » أخرجه البخاري (6696 ، 6700 ) ، وأبو داود (3289) ، والترمذي (1526) ، والنسائي (3806) ، وابن ماجه (2126) .
ـ و من نذر المعصية النذر للمشاهد و القبور ، و هذا من الشرك الأكبر
ـ و أما النذر للــــــــه عند القبور أو في الأماكن التي يذبح فيها لغير الله فهو من ذرائع الشرك لذا ورد النهي عنه .
عن ثابت بن الضحاك قال : نذر رجل على عهد النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فقال : إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة ؟
فقال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟
قالوا : لا .
قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟
قالوا : لا .
قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ : « أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم . » حديث صحيح ، رواه أبو داود ( 3313 ) .
و بوانة : هي هضبة من وراء ينبع قريبة من ساحل البحر ، واسم موضع بأسفل مكة ، و الأول هو المراد ، و الله أعلم .
3 ـ نذر المباح ، كأن ينذر المشي أو لبس بعينه و نحوه .
حكمه : لا يجب الوفاء به ، و ليس فيه كفارة على الراجح .
عن ابن عباس قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه. » رواه البخاري (6704) ، و أبو داود (3300 ) .
· القسم الثالث : باعتبار اللفظ و هو ينقسم إلى أربعة أقسام إجمالاً :
1 ـ نذر ما لم يسم ( نذر المبهم ) كأن يقول : لله عليَّ نذر ، و لا يسميه .
حكمه : فيه كفارة يمين لحديث ابن عباس السابق .
2 ـ النذر المقيد ، كأن يقول : لله علي نذر كذا ، و يذكر متعلقه سواء طاعة أو منهي عنه أو مباح .
حكمه : حكم متعلقه و قد سبق .
3 ـ النذر المنجز : و صورته في المثال السابق ، وحكمه ، حكم متعلقه كما سبق .
4 ـ النذر المعلق : و صورته أن يقول مثلاً إن حدث كذا فلله عليَّ نذر كذا .
حكمه : مكروه كما سبق ، و يجب الوفاء به إن كان نذر تبرر ( طاعة ) تحت الطاقة و السعة و إلا ففيه كفارة يمين .
· و الخلاصة :
أن النذر الذي يجب الوفاء به : نذر الرضى للقُرَبِ التي تحت الوِسعِ سواءً كان منَجَّزاً أو معلقاً ، فإن طرأ عليه ما يعجزه عن الوفاء كمرض لا يرجى برؤه أو شيخوخة أو نحوها ، فكفارته كفارة يمين .
وعدم الوفاء بالنذر محرم قال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78) } سورة التوبة .
· مراتب التزام الطاعة :
و مراتب التزام الطاعات غير الواجبة بأصل الشرع أربع ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين
( 2 / 86 ) : ((الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام:
أحدها: التزام بيمين مجردة.
الثاني: التزام بنذر مجرد.
الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر.
الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين.
فالأول : نحو قوله: " والله لأتصدقن " .
والثاني : نحو: " لله علي أن أتصدق ".
والثالث : نحو: " والله إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا ".
والرابع : نحو: " إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدقن " وهذا كقوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} التوبة: 75 .
فهذا نذر مؤكد بيمين . ))
قلت : فالأول يمين يخير فيها بين الوفاء و الكفارة .
قال ابن القيم في الموضع السابق ( 2 / 87 ) : ((وأما إذا حلف يمينًا مجردة ليفعلن كذا فهذا حض منه لنفسه، وحث على فعله باليمين، وليس إيجابًا عليها، فإن اليمين لا توجب شيئًا ولا تحرمه، ولكن الحالف عقد اليمين بالله ليفعلنه، فأباح الله سبحانه له حل ما عقده بالكفارة.
ولهذا سماها الله تحلة، فإنها تحل عقد اليمين، وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهمه بعض الفقهاء.
فإن الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب، وإن كان مباحًا، فالشارع لم يبح سبب الإثم، وإنما شرعها الله حلاً لعقد اليمين كما شرع الله الاستثناء مانعًا من عقدها؛ فظهر الفرق بين ما التزم لله وبين ما التزم بالله . ))
و الثلاثة الباقية من النذر و بعضها آكد من بعض فأسهلها الأول ، و آكدها الثالث .
هذا ما يسره الله فإن كان صوابًا ففضل من الله ، و إن كان خطأ فمني و من الشيطان و الله و رسوله بريئان منه ، و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل .