نهاية فتنة القول بخلق القرآن
مناظرة أبي عبد الرحمن الآذرمي
قال الخطيب في تاريخه ( 11 / 271 ) :
(( كان هارون الواثق بالله، أشخص شيخًا من أهل أذنة للمحنة، وناظر بن أبى دؤاد بحضرته، واستعلى عليه الشيخ بحجته، فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقال: إنه كان أبا عبد الرحمن الآذَرْمي.
أخبرنا بقصته محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أحمد بن سندي الحداد قال: قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا اسمع قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قال:
حضرت المهتدى بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه، وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة،
فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ الكتاب عليها، ويحرر ويختم، وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك، واستحسنت ما رأيت منه، فجعلت انظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه،
حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثة، إذا نظر غضضت، وإذا شغل نظرت.
فقال لي: يا صالح.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا.
فقال: في نفسك منى شيء تريد أو قال تحب أن تقوله ؟
قلت: نعم يا سيدي.
فقال لي: عد إلى موضعك.
فعدت
وعاد إلى النظر، حتى إذا قام، قال للحاجب: لا يبرح صالح، وانصرف الناس، ثم أذن لي، وهمتني نفسي، فدخلت فدعوت له.
فقال لي: اجلس. فجلست
فقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي أنه دار في نفسك ؟
قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه، وتأمر به.
فقال: أقول أنا أنه دار في نفسي، أنك استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول إن القرآن مخلوق.
فورد على قلبي أمر عظيم، ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل،
فقلت: يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلتَ.
فاطرق مليا، ثم قال: ويحك اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن الحق.
فسري عني .
وقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين.
فقال: ما زلت أقول أن القرآن مخلوق صدرًا من أيام الواثق، حتى أَقْدَم أحمدُ بن أبي دؤاد علينا شيخًا من أهل الشام من أهل أذنة
فأُدخِلَ الشيخُ على الواثق مقيدًا، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة.
فرأيت الواثق قد استحيى منه، ورق له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه،
فسلم الشيخ فأحسن، ودعا فبلغ وأوجز.
فقال له الواثق: اجلس. فجلس
وقال له: يا شيخ، ناظر بن أبى دؤاد، على ما يناظرك عليه.
فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبى دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له، غضبا عليه،
وقال: أبو عبد الله ابن أبي داود يصبو ويضعف عن مناظرتك أنت.
فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين، ما بك، وايْذَنْ في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما يقول.
قال: افعل.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بما قلت ؟
قال: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بعثه الله إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا مما أمره الله به في أمر دينهم ؟
فقال: لا.
فقال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمة إلى مقالتك هذه ؟
فسكت بن أبى دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم.
فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله عز و جل حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ﴾
كان الله تعالى الصادق في إكماله دينه، أو أنت الصادق في نقصانه، حتى يقال فيه بمقالتك هذه ؟
فسكت بن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا احمد.
فلم يجب.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: نعم اثنتان.
قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أم جهلها ؟
قال بن أبي داود: علمها.
قال: فدعا الناس إليها ؟
فسكت.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن علمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها ؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم ؟
قال بن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت القول إن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة،
يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة، ما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم، أو قال فلا وسع الله عليك.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة، ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، فلا وسع الله علينا.
اقطعوا قيد الشيخ.
فلما قطع القيد.
ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه الحداد عليه.
فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه، فأخذه فوضعه في كمه.
فقال له الواثق: يا شيخ لم جاذبت الحداد عليه ؟
قال: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه: إذا أنا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة.
وأقول: يا رب، سل عبدك هذا، لم قيدني، و روع أهلي و ولدي و إخواني بلا حق أوجب ذلك علي.
وبكى الشيخ، فبكى الواثق، وبكينا.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حل و سعة مما ناله.
فقال له الشيخ: و الله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم، إكراما لرسول الله صلى الله عليه و سلم، إذ كنت رجلا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال له الواثق: تقيم قبلنا، فننتفع بك وتنتفع بك فتياننا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إنَّ ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عليك،
وأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي فاكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك.
قال: يا أمير المؤمنين، لا يحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة سوي.
فقال: سل حاجة.
قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين.
قال: نعم.
قال: تأذن أن يُخلَّى لي السبيل الساعة، إلى الثغر.
قال: قد أذنت لك.
فسلم عليه وخرج.
قال صالح بن علي: قال المهتدى بالله: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن أن الواثق قد كان رجع عنها، منذ ذلك الوقت. ))
مراتب الأخذ بالأدلة عند الإمام الشافعي
و قوله في مذهب الصاحب
قال الشافعي في الأم ( 7 / 246 ) و قد أخرج البيهقي بعضه في المعرفة ( 1 / 183 الفقرات : 317 إلى 320 ) :
[ ـ أقول ما كان الكتاب و السنة موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما .
ـ فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم –
ـ أو واحد منهم
ـ ثم كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان
إذا صرنا فيه إلى التقليد أحب إلينا
و ذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فيتبع القول الذي معه الدلالة لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزمه الناس ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر وقد يأخذ بفتياه أو يدعها وأكثر المفتين يفتون للخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا تعنى العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام
ـ وقد وجدنا الأئمة يبتدئون فيسألون عن العلم من الكتاب و السنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم فيقبلون من المخبر و لا يستنكفون على أن يرجعوا لتقواهم الله وفضلهم في حالاتهم
ـ فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين في موضع أخذنا بقولهم وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم .
ـ و العلم طبقات شتى :
الأولى : الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة
ـ ثم الثانية : الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة
ـ و الثالثة : أن يقول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم له مخالفًا منهم
ـ والرابعة : اختلاف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك
ـ الخامسة : القياس على بعض الطبقات
ـ و لا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان
ـ و إنما يؤخذ العلم من أعلى
ـ و بعض ما ذهبتم إليه خلاف هذا ، ذهبت إلى أخذ العلم من أسفل قال فتوجدني بالمدينة قول نفر من التابعين متابعًا الأغلب الأكثر من قول من قال فيه
نتابعهم وإن خالفهم أحد منهم كان أقل عددًا منهم فنترك قول الأغلب الأكثر لمتقدم قبله أو لأحد في دهرهم أو بعدهم . ]
معنى التقليد في لسان الشافعي
قال البيهقي في كتاب اختلافه مع مالك :
[ وَ لَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ لَفْظَةِ التَّقْلِيدِ فِي كَلَامِهِ ، وَتَظُنَّ أَنَّهَا تَنْفِي كَوْنَ قَوْلِهِ حُجَّةً بِنَاءً عَلَى مَا تَلَقَّيْتُهُ مِنْ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ التَّقْلِيدَ قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ .
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِ بِتَقْلِيدِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ،
فَقَالَ : قُلْت : هَذَا تَقْلِيدًا لِلْخَبَرِ .
وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ . ]
هل الإعذار بالجهل يشمل المسائل العلمية ـ الاعتقادية ـ و العملية ؟
قال شيخ الإسلام أبو العباس ، تقي الدين ، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ـ النميري العامري ـ المعروف بـ : ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى [ جمع ابن القاسم ] ( 23 / 346 ) :
(( و هكذا الأقوال التي يكفر قائلها :
ـ قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق
ـ و قد تكون عنده و لم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها
ـ و قد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها
فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق و أخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان سواءً كان :
ـ في المسائل النظرية
ـ أو العملية .
هذا الذي عليه أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجماهير أئمة الإسلام و ما قسموا المسائل إلى :
ـ مسائل أصول يكفر بإنكارها
ـ و مسائل فروع لا يكفر بإنكارها. ))
شأن أهل الضلالة
قال ابن حزم في الفصل في الملل و الأهواء و النحل ( 4 / 171 ) :
وَاعْلَمُوا رحمكم الله :
ـ أَن جَمِيع فرق الضَّلَالَة لم يجر الله على أَيْديهم خيرًا وَلَا فتح بهم من بِلَاد الْكفْر قَوِيَّة وَلَا رفع لِلْإِسْلَامِ راية
ـ وَمَا زَالُوا يسعون فِي قلب نظام الْمُسلمين
ـ ويفرقون كلمة الْمُؤمنِينَ
ـ ويسلون السَّيْف على أهل الدّين
ـ ويسعون فِي الأَرْض مفسدين
ـ أما الْخَوَارِج والشيعة فَأَمرهمْ فِي هَذَا الشَّهْر من أَن يتَكَلَّف ذكره
هل لتقسيم المسائل لأصول يُكَفَّرُ بجهلها ، و فروع لا يُكَفَّرُ بجهلها أصل ؟
قال شيخ الإسلام أبو العباس ، تقي الدين ، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ـ النميري العامري ـ المعروف بـ : ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى [ جمع ابن القاسم ] ( 23 / 346 ـ 347 ) :
(( فأما التفريق بين نوع وتسميته :
ـ مسائل الأصول
ـ وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع
فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان و لا أئمة الإسلام
وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم
و هو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين:
ـ ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها ؟
ـ و ما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع ؟
فإن قال :
• مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد
• ومسائل الفروع هي مسائل العمل.
•
قيل له :
فتنازع الناس في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل رأى ربه أم لا ؟
و في أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل؟
وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث
هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق .
ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق.
ـ و إن قال الأصول: هي المسائل القطعية
قيل : لا، كثير من مسائل العمل قطعية ، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية .
ـ و كون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية .
ـ وقد تكون المسألة عند رجل :
• قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتيقن مراده منه.
• وعند رجل لا تكون ظنية ، فضلًا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه ، أو لعدم ثبوته عنده ، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
ـ و قد ثبت في الصحاح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث الذي قال لأهله : { إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه والبحر برد ما أخذ منه وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له }
ـ فهذا شك في قدرة الله.
ـ و في المعاد
ـ بل ظن أنه لا يعود
ـ و أنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك ، وغفر الله له .
ـ و هذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. ))
دعم وتطوير حلول سوفت | |